ثم صاروا يعتمدون الكتابةَ عند السماع، فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوي، طالبوه بالأصل.
ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقييد السماع، فشدَّدَ النقادُ، فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم، الموثوق به، المقيد سماعه فيه.
فإذا لم يكن للشيخ أصلٌ، لم يعتمدوا عليه، وربما صرح بعضهم بتضعيفه، فإذا ادَّعَى السماعَ ممن يستبعدون سماعَهُ منه، كان الأمرُ أشدَّ.
ولا ريب أن في هذه الحالة الثالثة احتياطًا بالغا، ولكن إذا عُرفت عدالةُ الرجل وضبطُه وصدقُه في كلامه، وادَّعى سماعا عتملا ممكنا، ولم يُبرز به أصلًا، واعتذر بعذرٍ محتملٍ قريبٍ، ولم يأتِ بما يُنكر، فبأي حجة يُرد خبره؟
وقد قال الخطيب:"حدثني أبو عبد الله الصوري قال: قال لي حمزة بن محمد بن طاهر: قلت لخالي أبي عبد الله بن دوست: أراك تملي المجالس من حفظك، فلم لا تملي من كتابك؟ فقال لي: انظر فيما أمليه، فإن كان لك فيه زلل أو خطأ، لم أُمْلِ من حفظي، كان كان جميعه صوابًا، فما الحاجة إلى الكتاب؟ أو كما قال".
فيظهر أن والده لم يكتف بتسميعه، بل اعتنى بتحفيظه ما سمع.
فإذا كانت أصوله بعد حفظه ما فيها غرقت، فابتلت، وخيف تقطع الورق، وبقيت الكتابة تقرأ، فاستنسخ منها، أو ذهبت، فنسخ من حفظه، أو من كُتبٍ قد كانت قُوبلت على أصوله، أو لم تُقابل، ولكنه اعتبرها بحفظه، فأي حَرَجٍ في ذلك؟
وإذ كان اعتمادُه على حفظه، فَهَبْ أنه لم يكن له أصولٌ البتة، أو كانت، فتلفت، ولم يستدرك نسخها، ألا يكون له أن يروي من حفظه؟ أولًا تقومُ الحجةُ بخبره إذا كان عدلًا ضابطًا؟