وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده -بدليلٍ يصح الاستنادُ إليه- أن الخبر لا أصل له، وأن الحمل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي: أتعمد الكذب أم غلط؟
فإذا تدبر وأنعم النظر، فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزمًا، وقد يميل ظنه إلى أحدهما، إلا أنه لا يبلغ أن يجزم به، فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه:"متهم بالكذب" أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى.
ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغه أحدٌ من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين، اللهم إلا أن يَتهم بعض المتقدمين رجلًا في حديثٍ يزعم أنه تفرد به، فيجد له بعض أهل العصر متابعاتٍ صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح.
فأما من وثقه إمام من المتقدمين أو أكثر، ولم يتهمه أحد من الأئمة، فيحاول بعض أهل العصر أن يكذبه أو يتهمه، فهذا مردود؛ لأنه إن تهيأ له إثباتُ بطلان الخبر، وأنه ثابت عن ذلك الراوي ثبوتًا لا ريب فيه، فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرد به، ولا أن شيخه لم يروه قط، ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به.
بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذبه المتقدمون، لكن مع الاستناد إلى كلامهم، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت وترجمة محمد بن سعيد البورقي، كان كان الأستاذ يخالف في ذلك فيصدق من كذبه الأئمة، وكذبه واضح، كما يكذب أو يتهم من صدقوه وصدقه ظاهر، شأن المحامين في المحاكم، معيار الحق عند أحدهم مصلحةُ مُوَكِّلِهِ! ". اهـ.