ومن تتبع السيرةَ والسنةَ، عَلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ربما يقضي بالقضية أو يحدث بالحديث أو يفتي في مسألة، وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان، ثم كان معظمُ أصحابه لا يُحدثون بالحديث عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إلا عندما تدعو الحاجة ومنْ لازمِ ما تقدم، مع احتمال نسيان بعضهم، أو موته قيل أن يُخبر بالحديث: أن يكونَ كثيرٌ من السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحاد الصحابة.
ثم تفرق الصحابة في الأقطار، فمنهم من هو في باديته، ومنهم من صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن، فكان عند أهل كل جهة أحاديثُ من السنة لم تكن عند غيرهم في أول الأمر -كما روي عن مالك-.
ثم اجتهد أصحاب الحديث في جمع السنة من كل وجه، وقد عُلم من الشريعة أنه ليس على العالِم الإحاطةُ بالعلم كله, وأن من شهد له أهل العلم بأنه عالم، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاءٍ أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عز وجل وفيما يعلمه من السنة، فإن لم يجد فيهما النص على تلك المسألة سأل من يسهل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليلٌ، فإن لم يجد، وعَرف أن لبعض الصحابة قولًا في تلك المسألة -لم يعلم له مخالفًا- أخذ به، وإن علم خلافًا رجح، فإن لم يجد قولَ صحابي ووجد قولَ تابعي ممن تقدمه -لم يعلم له مخالفًا فيه- أخذ به، وإن علم خلافًا رجح.
وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالمُ قولَ من كان ببلده من الصحابة أو التابعين؛ لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق، هذا مع ما لِلإِلْفِ والعادة من الأثر الخفي. فإن لم يجد شيئًا مما تقدم اجتهد رأيه، وقضى وأفتى بما يظهر له.
ثم إذا قضى أو أفتى مستندًا إلى شيءٍ مما تقدم، ثم وجد دليلًا أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقًا: أخذ مِنْ حينئذٍ بالأقوى.
على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم، كما هو مبسوط في مواضعه، ومنها (إعلام الموقعين).