المريسى وابن أبي داود، ونسبوا تلك المقالة إلى أبي حنيفة، وساعدهم حفيده إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، واستحوذوا على الدولة، فَسَعَتْ في تنفيذ تلك المقالة بكل قُواها في جميع البلدان، فكان علماء السنة يُكَلَّفُون بأن يقولوا: إن القرآن مخلوق، فمن أجاب مُظهرًا الرضا والاعتقاد صار له منزلة وجاه في الدولة، وأُنعم عليه بالعطاء وولاية القضاء وغير ذلك، ومن أَبَى حُرم عطاءه وعُزل عن القضاء أو الولاية ومنع من نشر العلم، وكثير منهم سُجنوا ومنهم من جُلد، ومنهم من قُتل.
وأسرف الدعاةُ في ذلك حتى كان القُضاة لا يُجيزون شهادةَ شاهدٍ حتى يقول: إن القرآن مخلوق، فإن أَبَى ردوا شهادته، ومن أجاب مكرهًا ربما سجنوه وربما أطلقوه مسخوطًا عليه، وفي كتاب "قضاة مصر" طرفٌ من وصف تلك المحنة.
فيرى الأستاذ أن ذلك أوغرَ صدور أصحاب الحديث على أبي حنيفة، فكان فيهم من يذمه، ومنهم من يختلق الحكايات في ثلبه.
فأقول: ليس في ذلك ما يبرر صنيع الأستاذ.
أما أولًا: فلأن أصحاب الحديث منهم من صرح بأنه لم يثبت عنده نسبة تلك المقالة إلى أبي حنيفة، كما رواه الخطيب من طريق المروذي عن أحمد بن حنبل، ومنهم من وقعت له رواياتٌ تُنسب إلى أبي حنيفة بأن القرآن غير مخلوق، وتلك الروايات معروفة في "تاريخ بغداد" و"مناقب أبي حنيفة" وغيرها، فكيف يُظن بهم أن يحملوا على أبي حنيفة ذنبًا يرونه بريئًا منه، ويخرجوه من صَفِّهم، مع عدم استغنائهم عنه إلى صَفِّ مخالفهم؟.
وأما ثانيًا: فهل يريد الأستاذ أن يستنتج من ذلك أن أصحاب الحديث صاروا كلُّهم بين سفيهٍ فاجرٍ كذاب، وأحمق مغفل يستحل الكذب الذي هو في مذهبه من أكبر الكبائر وأقبح القبائح؟ فليت شعري عند من بقي العلم والدين؟ أعند الجهمية الذين يعزلون الله وكتبه ورسله عن الاعتداد في عظم الدين وهو الاعتقاديات، ويتبعون فيها الأهواء