ثانيًا: في تقدمة "الجرح والتعديل" (ص ٣٣٤) قال أبو حاتم: "كنت أتولى الانتخاب على أبي الوليد، وكنت لا أنتخب ما سمعت من أبي الوليد قديمًا .. ". فقد كانت لأبي حاتم عناية بأصول أبي الوليد، يحفظها، وينتخب ما لم يسمعه منها من قبل، فلما نظر في مسند خليفة وجد فيه أحاديث عن أبي الوليد لا يعرفها أبو حاتم عن أبي الوليد، فانتخبها وكتبها، على عادة النقاد في انتخاب الغرائب والمناكير من الأصول -انظر رسالتي في "تعظيم قدر أئمة النقد" (ص ١٤١) من هذا القسم- ثم أتى بها أبا الوليد يعرضها عليه لينظر إن كان حدَّث بها أبو الوليد من حفظه أو نحو ذلك، أما الأصول فكانت تحت بصر أبي حاتم يتولى الانتخاب منها مرة بعد أخرى، فانكرها أبو الوليد أن تكون من حديثه, كما حَدَسَ أبو حاتم، ومن أجل ذلك انتقاها من بين المسند. وسواءٌ كانت تلك الأحاديث مناكير من حيث إنها لم تكن من حديث أبي الوليد فقط, أم أُضيف إليها نكارة متنها، فالغرابة لازمةٌ لها. ويؤيد الثاني ما يدل عليه قول أبي حاتم "وسكن غضبه" فإن فيه أن أبا الوليد لما سأله أبو حاتم عن تلك الأحاديث, غضب, وهذا يُشعر بأن فيها نكارة, واستعظم أبو الوليد أن يكون حدث بها، والظاهر أنه لو كانت تلك الأحاديث معروفة ومحفوظة لاكتفى أبو الوليد بنفي أن تكون من حديثه, بحيث لو كانت في نفس الأمر من حديثه فليس ذلك بضائره, لكن غضبَهُ مُشعرٌ بما قدَّمنا، والله تعالى أعلم. ثالثًا: وهو مبني على ما سبق، أن أبا الوليد لما استنكر أن تكون تلك الغرائب من حديثه, وغضب لذلك، خَشِيَ أن يكون من حدَّث بها عنه ثقة ضابط، فربما عاد الأمر بالتردد بين أن يكون أبو الوليد قد حدَّث بها ثم نسي، أو يكون ذاك الثقة وهم عليه، فلما أُخبر أبو الوليد أن الذي حدَّث بها عنه هو خليفة ابن خياط, زال هذا التردد واطمأن قلبه إلى أن التَبِعَةَ فيها لازمةٌ لخليفة, لمعرفته به، فسكن غضبه. وهذه المعرفة لا يلزم منها التكذيب, وقول أبي حاتم "لا أحدث عنه، هو غير قوي" يدل على ذلك، وإلا لو دَلَّ صنيعُ أبي الوليد على ذلك لما أَجْمَلَ أبو حاتم فيه القول. وإنما هذه المعرفة تعني أن خليفة ليس من أصحاب الحديث المعنيين به، وليس هذا ميدانه، وإنما هو عالم بالنسب والسِّير وأيام الناس، فليست روايته عن أبي الوليد تلك المناكير بخادشةٍ في إنكار أبي الوليد لها. =