وشاءت حِكمةُ اللَّهِ عز وجل أَلَّا يُخَلِّفَ رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وراءَهُ شيئًا من حُطام الدنيا، وإنما خَلَّفَ ميراثًا وافرًا من العلمِ النافعِ، وَرِثَهُ عنه أصحابُه وحَمَلَةُ لِوَائِهِ.
وقد اشْتَهرَ من هؤلاءِ الصَّحْبِ نَفَرٌ، قيَّضَهُم اللَّهُ تعالى لِحفْظِ النَّصِيبِ الأَوْفَر من هذا الميراث، فاعتَنَوْا به, وبلَّغُوه مَنْ بَعْدهم، وأخذه عَنْ كُل منهم تلاميذُ أَكْفَاء، فكانوا مشاعلَ لهذا العلم، وعَنْ هؤلاءِ أخذهُ نحوُهم، وهَلُمَّ جَرَّا.
وهكذا في كُل عصر يبرزُ رجالٌ؛ يَحْفَظُ اللَّه بهم تلك السُّنَّةَ التي هي مُبَيِّنَةٌ لذلك الكتابِ المعجزِ الخاتمِ الذي تكَفَّلَ -سبحانه- بحفظِهِ.
وكما اخْتَارَ اللَّهُ لِدِينه أَعْلامًا يَحْملُون لِوَاءَهُ، ويحفظون سُنَنَ النبي الأمين، فقد اختارَ رجالا، صَنَعهم على عَيْنِهِ، ورَزَقهم مِنَ المعرفةِ، وهيَّأَ لهم من الأَحْوال، ما جعلهم نُقَّادًا صَيَارِفَةً، اجتهدوا في حفظ ذلك الميراث, فنَفَوْا عنه كُلَّ تحريفٍ، وأماطَوْا عنه كُلَّ انْتِحَالٍ، بَيّنوا خطأَ المخطىء -مَهْما كان- وميَّزُوا بين عُدُول النَّقَلَةِ وأَهْل الحِفْظِ منهم، وبين سَاقِطيهم وأهْلِ الغفلة وسُوء الحِفْظِ.
جعلهم اللَّه حُرَّاسَ الشَّريعة، المأمونين عليها من كُلِّ دَخِيل، فقطَعُوا في حِفْظِها المَفَاوِزَ، وجَازُوا في سبيلها القِفارَ والبحار، تَشَفَّقَتْ في طلبها أَقْدامُهم وأَشْداقُهم، ورَبَطُوا على بطونهم -من الجوع- الأَحْجَار.
طلبوا الدرجاتِ الرفيعة, والأقدارَ الشريفة، فلما صحَّتْ نِيَّتهُمْ وصَدَقَتْ عَزِيمتُهمْ، وَوَضَحتْ أهدافُهم، ودَأَبُوا وما مَلُّوا، واستقاموا وما تَلَفَّتُوا -مع النَّباهة واليقظة- بَلَغَ اللَّه بهم من المنزلةِ غايةً؛ ليس وراءها مُطَّلَع لِنَاظِرٍ، ولا زيادةٌ لمُسْتَزِيدٍ، ولا فوقها مُرْتقًى لِهِمَّةٍ، ولا مُتَجَاوَزٌ لأمَلٍ، وبلغتْ بهم نعمةُ اللَّهِ في ذلك حيثُ لا تُبْلَغُ الآمَالُ والأمَانيُّ والهِمَمُ، وذلك فَضْلُ اللَّه يؤتيه من يشاء.