فإن البخاري حدَّث بتلك النسخة وسمع الناس منه منها، وأخذوا لأنفسهم نسخًا في حياته، فثبت بذلك أنه مطمئن إلى جميع ما أثبته فيها، لكن ترك مواضع بياضًا، رجاء أن يضيفها فيما بعد، فلم يتفق ذلك.
وهي ثلاثة أنواع:
الأول: أن يثبت الترجمة وحديثًا أو أكثر، ثم يترك بياضًا لحديث كان يفكر في زيادته، وأخَّر ذلك لسببٍ ما، ككونه كان يحب إثباته كما هو في أصله ولم يتيسر له الظفر به حينئذ.
الثاني: أن يكون في ذهنه حديثٌ يرى إفراده بترجمة فيثبت الترجمة ويؤخر إثبات الحديث لنحو ما مرَّ.
الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضًا للترجمة؛ لأنه يُعنى جدًّا بالتراجم ويضمنها اختياره، وينبه فيها على معنًى خفي في الحديث، أو حمله على معنى خاص، أو نحو ذلك، فإذا كان مترددًا ترك بياضًا ليتمه حين يستقر رأيه.
وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل فيما أثبته.
فأما التقديم والتأخير فالاستقراء يبين أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم؛ يتقدم أحدُ البابين في نسخةٍ ويتأخر في أخرى، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث في نسخة وتتأخر عنه في أخرى، فيلتحق بالترجمة السابقة، ولم يقع من ذلك ما يمسُّ سياقَ الأحاديث بضرر.
وفي مقدمة "الفتح" بعد العبارة السابقة: "قلت: وهذه قاعدة حسنة يُفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جدًّا" اهـ.