من تأمَّل تلك الأمور الخاصَّة بابن معين، عَلم ما قررناه سابقًا أن لكل إمام نظرًا يختلف من حالٍ إلى حال، ومن راوٍ إلى آخر، وأن الحَقَّ يُعرفُ بمجموع كلام الإمام.
ولو استحق الإمامُ وصفًا ما برأي كرره في مواضع، وخالف فيه غيره من الأئمة، لاستحق كُلُّ إمامٍ أوصافا متناقضة فمن نظر إلى الأمر السادس والسابع، رمى ابن معين بالتساهل، ومن نظر إلى الأمر الرابع، رماه بالتشدد، وإلى الأمر الثاني والثالث، رماه بالمجازفة والتعدِّي في استعمال ألفاظ الجرح فيمن لا يستحق.
ومن نظر في الأمر الثامن ربما ظن عدم الخبرة أو نحو ذلك، وفي الأمر الأول ظن اضطراب ابن معين في أقواله.
وجميعُ هذا لا يصحُّ وصفُ ابن معين -ولا غيره من الأئمة- به، ولا يكادُ يسلمُ كلامُ أحدٍ من الأئمة في الرواة من بعض هذه الأمور، كما سبق في ترجمة أبي حاتم، فبينما جَهَّلَ جماعة من الرواة قد عرفهم أو وثقهم غيره فقد عرف ووثق جماعةً قد جهلهم أو ضعفهم غيره.
وهذا أمر منتشر مستفيض في كتب التراجم، لا يلزم من شيء منه إلصاق الأوصاف بالأئمة، وتعطيل أقوال بعضهم في الرواة بحجة كونه يتشدد أو يُسَهِّلُ.
اللهم إلا أن يُصرِّحَ الإمامُ بمنهجٍ له في توثيق الرواة، يُعلم من مذاهب النقاد وقوع الخلل في ذاك المنهج، كتوثيقات ابن حبان مثلًا، كما سيأتي.