قال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عفَت، فبنى قوم عليها
مسجداً لم أَر بذلك بأسًا؛ وذلك لأن المقابر وقف من أوقاف المسلمين
لدفن موتاهم، لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا درست واستُغنِيَ عن
الدفن (١) فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأن المسجد- أيضا- وقف من
أوقاف المسلمين لا يجوز تمليكه لأحد؛ فمعناهما على هذا واحدٌ. وذكر
أصحابنا أن المسجد إذا خرب ودثر، ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا
عفت ودثرت يَعودُ ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكا يجوز أن يُبنى موضع
المسجد دار، وموضع المقبرة مسجد، وغير ذلك؛ فإن لم يكن لها أرباب
يكون لبيت المال.
فإن قيل: هل يدخل من يبني المسجد على مقبرة المسلمين بعد أن عفت
ودثرت في معنى لعنة اليهود، لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد؟ قلت: لا؛
لافتراق المعنى؛ وذلك أنه- عليه السلام- أخبر أن اليهود كانوا يتخذون
قبور أنبيائهم مساجد ويقصدونها بالعبادة، وقد نسخ الله جميع ذلك
بالإسلام والتوحيد، ثم في هذا الحديث دليل على أن القبور إذا لم يبق
فيها بقية من الميت أو من ترابه جازت الصلاة فيها، وأنها إذا درست يجوز
بيعها؛ لأنها باقية على ملك صاحبها وورثته من بعده.
قوله: " وبالنخل فقطع " أي: أمر بالنخل فقطع؛ وفيه دليل على
[جواز] قطع الأشجار المثمرة لأجل الحاجة؛ وأما اليابسة فقطعها جائز مطلقا.
قوله: " فصفوا النخل قبلةً للمَسجد " من صففتُ الشيء صفا، وفي
" شرح البخاري ": وجعل قبلته إلى القدس وجعل له ثلاثة أبواب: باباَ
في مؤخره، وباباً يقال له: باب الرحمة- وهو الباب الذي يُدعى: باب
عاتكة -، والثالث: الذي يدخل منه النبي- عليه السلام- وهو الباب
الذي يلي آل عثمان- وجعل طول الجدار قامة، وبُسطه وعمده: الجذوع،
وسقفه جريدًا، فقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: " عريش كعريش مُوسى؛
(١) في الأصل: " الدين ".