للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قول الشيخ الأكبر فيما لو أوقف الله تعالى من عباده من شاء بين يديه وخاطبه بما له وعليه، فقال له: إن لم تتق الله جهلته وإن اتقيته كنت به أجهل، ولا بد لك من إحدى الخصلتين، فلهذا خلقت لك الغفلة حتى تتعرى عن حكم الضدين؛ لأنه بدون الغفلة يظهر حكم أحدهما، فاشكر الله تعالى على الغفلة والنسيان، فقد سألنا هذه المسئلة رجل عزيز يرجو شرحها وتفصيلها.

(أجاب) أعلم زادك الله توفيقا وبحثا عن الدقائق أن هذا السؤال ظاهر لمن شرح الله صدره للإيمان والإسلام، فقوله: إن لم تتق الله جهلته؛ أي من كل وجه واعتبار، ولهذا سمي من كان قبل الإسلام جاهليا، ولم يكلفوا بشرائع لقوله {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فمن لم يتق الله فقد أعرض عنه بكل حال وجهله من كل الأوجه، حتى من وجه الإنعام والإكرام والخلق والرزق والإحياء والإماتة والثواب والعقاب، وذلك لتراكم الظلمات بعضها فوق بعض عليه، من بواعث النفس والهوى المضل والشيطان المغوي وحب العاجل المردي، وهو المشار إليه بقوله تعالى {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}} كلا بل ران على قلوبهم {} وطبع على قلوبهم {\٣٠ أم على قلوب أقفالها} وقوله: إن اتقيته؛ أي إن أردت بتقواك الوصول إلى الكنه والحقيقة كنت به أجهل؛ لأن ذلك محال في الدنيا بل وفي الأخرى، وطلب المحال أبلغ من الجهل وإنما المراد من التقوى أمور؛ إما ملاحظة كمال الذات وما لها من جميل الصفات، فيتقي وإن انتقم تعالى منه، وهذا مقام المقربين، وإما ملاحظة النعم الصادرة منه تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، وسائر النعم، وهذا مقام الرابحين، وإما ملاحظة الأمر والنهي وما يترتب عليهما من ثواب وعقاب، وهذا مقام الخائفين، فلا بد للإنسان إما من الجهل المعمي المصم المبكم، فلا يتقي أصلا، وإما يتقي الذات بمعنى الوصول إلى الكنه والحقيقة، وهذا محال أبلغ في الجهل لأنك حادث بكل وجه واعتبار، ومولاك قديم بذاته وصفاته، فلا جامع بينك وبينه بوجه، ولهذا خلقت لك الغفلة لتتعرى عن حكم الضدين؛ أي الجهل المعمي المصم الخ، وطلب الوصول إلى الكنه والحقيقة، فاشكر الله تعالى على الغفلة والنسيان اللذين لم يوقعاك في شيء من الأمرين المذكورين، فلهذا قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} والله تعالى يعبد في حال التكليف أي حالا لا غفلة فيه ولا نسيان، إما تعظيما لذاته وإن انتقم وإما مقابلة لإنعامه كما هو عادة الكريم، أن يجازي على الكرم، وإما طمعا في إحسانه ومخافة عقابه، كما هو شأن الحيوان، كالحمار ونحوه، فتأمل شرح الله تعالى صدرك، فهذه إشارة من فيض بحر وعبارة، ووراء ذلك ما يحيل عن درك الأذهان، وثم وراء النقل علم يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة، ولا تخفى

<<  <  ج: ص:  >  >>