للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو كان فيه فضيلة لمنحه لأوليائه، وقد كان أكثر الأنبياء - مع ما خصهم به من كرامته وفضله على خلقه - فقراء جدا لا يقدرون على شيء، ولقد كان أحدهم يبتلى بالقمل فيأكل من بدنه حتى يقتله، وإن أحدهم كان أشد فرحا بالبلاء أكثر من فرح غيره بالعطاء؛ لأن المعرفة كلما قويت بالمبتلى هان عليه البلاء، ولا يزال يرتقي في المقامات حتى يتلذذ بالضراء أعظم من التذاذه بالسراء، ويعد عدم الضراء مصيبة، والله تعالى الموفق والهادي للرشاد.

[مطلب اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية الخ]

(سئل) ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية؟.

(أجاب) يعنى احذروا إنكار القدر، ويجب عليكم أن تعتقدوا أن ما قدر في الأزل لا بد من وقوعه، وأن الله تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره، خالق كل شيء، والمراد: احذروا الخوض في القدر. قال أبو الليث: إن استطعت أن لا تخاصم في القدر فافعل، فإن الشارع نهى عن الخوض فيه، فكما أن الخوض في ذلك البحر المتلاطم أمواجه والغوص في جوف الليل منهي عنه، فكذا الجدال فيه؛ إذ لا يخلو عن الخلل، ولأنه شعبة من النصرانية؛ أي فرقة من فرق دين النصرانية لأن المعتزلة الذين هم القدرية أنكروا إيجاد البارئ سبحانه وتعالى فعل العبد، فجعله بعضهم كالجبائية غير قادر على عينه، وجعلوا العبد قادرا على فعله، فهذا إثبات للشريك كقول النصارى، فالإيمان والكفر من فعل العبد لا من فعل الرب، وبذلك كفرهم وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة لأن طائفة منهم يقولون: الخير من الله والشر من العبد، فهم أشبه بالمجوس، والله أعلم.

[مطلب أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما كتب له]

(سئل) ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -» أجملوا في طلب الدنيا فإن كل ميسر لما كتب له منها «؟.

(أجاب) المعنى: اطلبوا الرزق طلبا جميلا بأن ترفقوا وتحسنوا السعي في نصيبكم منها بلا كد ولا تعب ولا تكالب وشقاق، وأن لا يطلب الدنيا بحرص وقلق وشره ووله، حتى لا ينسى ذكر ربه، ولا يتورط في شبهة، فيدخل فيمن أثنى الله تعالى عليهم بقوله: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ولأن كل أحد من الخلق ميسر ومهيأ لما قدر له من الرزق، فالمقدر له يأتيه ولا بد؛ فإن الله تعالى قسم الرزق وقدره لكل أحد لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، بحسب عمله الأزلي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أجملوا، وما قال: اتركوا؛ إشارة إلى أن الإنسان وإن علم أن رزقه المقدر له لا بد منه لكن لا يترك السعي، فإن من عوائد الله تعالى تعليق الأحكام بالأسباب، وهو وإن كان قادرا على إيجاد الأشياء اختراعا وابتداء لا بتقدير سبب وسبق علة بأن يشبع الإنسان بلا أكل ويرويه بغير شرب وينشئ الخلق بلا جماع، لكنه أجرى حكمته أن الشبع

<<  <  ج: ص:  >  >>