الرأي فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وقد أمر الله تعالى نبيه بالاستشارة مع كونه أرجح الناس عقلا، فقال تعالى:{وشاورهم في الأمر} وأثنى على فاعلها في قوله: {وأمرهم شورى بينهم} وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول. وقيل لرجل من بنى عبس: ما أكثر صوابكم، فقال: نحن ألف رجل فينا حازم ونحن نطيعه، فكأننا ألف حازم. فيتعين على العاقل أن يسترشد إخوان الصدق الذين هم ضياء القلوب، ولا يستشير امرأة لأن طاعة النساء ندامة، والله أعلم.
[مطلب أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي الخ]
(سئل) عن قوله - صلى الله عليه وسلم - «أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي» ما الحكمة في عذاب أحبابه؟.
(أجاب) الحكمة في ذلك لأجل تصفيته، ألا ترى إذا كان عند أحدكم فضة وفيها غش، هل تستقيم على حال؟ فإذا صفاها استقامت، وكذلك الآدمي لأنه خلق من طين وشأن الطين أن لا يخلو من الكدر إلا بعد معاناة شديدة، قال القرطبي: أحب الله تعالى أن يبتلي أصفياءه؛ تكميلا لفضلهم ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك نقصا في حقهم ولا عذابا، بل كمال رفعة مع رضائهم بجميل ما يجريه الله تعالى عليهم. وقال الجيلاني إنما كان الحق يديم على أصفيائه البلاء والمحن ليكونوا دائما بقلوبهم في حضرته لا يغفلوا عنه؛ لأنه يحبهم ويحبونه، فلا يختارون الرخاء لأن فيه بعدا عن محبوبهم، وأما البلاء فقيد للنفوس يمنعها من الميل لغير المطلوب وتنكسر به القلوب، وأيضا لتتضاعف أجورهم ولتتكامل فضائلهم، ويظهر للناس صبرهم ورضاهم، فيقتدى بهم، ولئلا يفتتن الناس بدوام صحتهم فيعذبونهم، ولأن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر فبلاؤه أشد، كما ورد «يبتلى الرجل على حسب دينه» أي بقدر قوة إيمانه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه. وقيل أن الدودة كانت تقع من جسد أيوب عليه السلام فيعيدها إلى محلها، ويقول لها: كلي من رزق الله حتى يفرج الله. ومن ظن أن شدة البلاء هوان بالعبد، فقد ذهب لبه وعمي قلبه، فقد ابتلي من الأكابر ما لا يحصى ز ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحيى بن زكريا، وقتل الخلفاء الثلاثة والحسين وابن الزبير، وقد ضرب أبو حنيفة وحبس ومات بالسجن، وجرد مالك وضرب بالسياط، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه، وضرب أحمد بن حنبل حتى أغمي عليه وقطع من لحمه وهو حي، وأمر بصلب سفيان فاختفى، ومات البويطي مسجونا في قيوده، ونفي البخاري من بلده، وغير ذلك مما وقع لمثل هؤلاء السادات، ومع ذلك فإنهم صبروا صبر الكرام لأجل الثواب، ولقد كان أحدهم يبتلى بالفقر الذي هو قلة المال حتى ما يجد إلا العباءة يخرقها في عنقه ويراها مع ذلك من أعظم النعم عليه؛ لعلمه بأن المال ظل زائل وعارية مستردة، وليس في كثرته فضل،