للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو حاتم (١): "جرى بيْنِي وبْين أبي زُرْعة يومًا تمييزُ الحديثِ ومعرفتُه، فجعل يذْكُرُ أحاديث ويذكرُ عِللها، وكذلك كنتُ أذكرُ أحاديث خطأ وعِللها، وخطأ الشُّيُوخ، فقال لي: يا أبا حاتم، قلّ منْ يفْهمُ هذا، ما أعزّ هذا، إذا رفعت هذا من واحدٍ واثنين فما أقلّ منْ تجد منْ يُحْسِنُ هذا. ورُبّما أشُكُّ في شيءٍ أو يتخالجُنِي شيءٌ في حديثٍ، فإِلى أن ألْتِقى معك لا أجد منْ يشْفِيني منه. قال أبو حاتم: وكذاك كان أمْرِي.

فقال ابنُ أبي حاتم: قلتُ لأبي. محمد بن مسلم [يعني: ابن وارة]؟ قال: يحفظُ أشياء عن مُحدِّثِين يُؤدِّيها، ليس معرفتُه للحديث غرِيزةً". اهـ.

وابنُ وارة حافظٌ ثبتٌ، قال ابن أبي حاتم: ثقةٌ صدوقٌ، وجدتُّ أبا زرعة يُجِلُّه ويُكْرِمُهُ. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أحفظُ من رأيتُ: ابنُ الفراتِ، وابنُ وارة، وأبو زُرْعة. وقال النسائي: ثقةٌ صاحبُ حديثٍ. وقال الطحاوي: ثلاثةٌ بالرّيّ لم يكن في الأرض مثلُهم في وقتهم: أبو حاتم وأبو زرعة وابن وارة.

ومع ذلك يقول عنه أبو حاتم: ليس معرفتهُ للحديث غريِزةً.

فأنت ترى عِزّة هؤلاءِ النّفرِ ونُدْرتهُم بيْن أهلِ زمانهم، ووُعُورة طريقتهم على أكثر الخلْقِ -وفيهم جملةٌ من المُشْتغِلين بالحديث وروايتِه- مع اطِّلاع الكثيرِ على أحْوالهم، وسعةِ حفظهم، وتوفرِ المقتضى الداعِي لفهم منهجهم، مِن القُرْبِ منهم، وإمكانيةِ الرجُوعِ إليهم، مع مشاهدة ميْدانِ الروايةِ، ومجالسِ التحديث، وأحوالِ الرواة تحمّلًا وأداءً، ودرجاتِهم في التّثبُّتِ والاحْتِياط، وغير ذلك من المجالات التي تدُورُ عليها تعْليلاتُ هؤُلاء النُّقّادِ.

فإذا كان الأمُر على نحو ما ذكرتُ، فليس مِنْ عجبٍ أن تزداد تلك الوُعُورةُ على من بعدهم، وتزداد الهُوّةُ بينهم، إلى سائر الأزمان المتأخرة، وهلُمّ جرّا إلى زماننا هذا.


(١) "تقدمة الجرح والتعديل" (ص ٣٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>