وهذه "الملكةُ" لم يُؤْتوْها من فراغٍ، وإنما هِى حصادُ رِحْلةٍ طويلةٍ من الطلبِ، والسماعِ، والكتابة، وإحصاءِ أحاديثِ الشُّيُوخ، وحفظِ أسماء الرجال، وكُناهُم، وألقابِهم، وأنسابِهم، وبُلدانِهم، وتواريخِ ولادةِ الرواةِ ووفياتِهم، وابتدائهم في الطلب والسماعِ، وارتحالِهم من بلدٍ إلى آخر، وسماعِهم من الشيوخ في البلدان، منْ سمع في كل بلدٍ؟ ومتى سمِع؟ وكيْف سمِع؟ ومع من سمع؟ وكيف كتابُه، ثم معرفةِ أحوالِ الشُّيوخ الذين يحدث الراوي عنهم، وبلدانِهم، ووفياتهم، وأوقاتِ تحديثهم، وعادتهِم في التّحْديثِ، ومعرفةِ مروياتِ الناس عن هؤلا الشيوخ، وعرْضِ مرويات هذا الراوي عليها، واعتبارِها بها، إلى غير ذلك مما يطولُ شرْحُه.
هذا مع سعة الاطِّلاع على الأخبارِ المرويّةِ، ومعْرفِة سائرِ أحوالِ الرُّواةِ التفصِيِليّةِ، والخِبْرة بِعوائِدِ الرواة ومقاصدِهم وأغراضِهم، وبالأسبابِ الدّاعِية إلى التّساهُلِ والكذب، وبِمظِنّاتِ الخطأ والغلطِ، ومداخِلِ الخللِ.
هذا مع اليقظة التامّة، والفهْمِ الثّاقِبِ، ودقيقِ الفِطْنةِ، وامتلاكِ النّفْسِ عند الغضب، وعدمِ الميْلِ مع الهوى، والإنصافِ مع الموافقِ والمخالفِ، وغير ذلك.
وهذه المرتبةُ بعيدةُ المرامِ، عزيزةُ المنالِ، لم يبْلُغْها إلا الأفْذادُ، وقد كانوا من القِلّةِ بحيث صاروا رُؤُوس أصحابِ الحديثِ فضْلًا عن غيرهم، وأضْحتِ الكلمةُ إليهم دُون منْ سواهم.
نُدْرةُ أهْلِ النَّقْدِ ودِقّةُ منْهجِهم:
وليس ذاك الرجلُ الذي حكى أبو حاتم مجِيئهُ إليه، وعرْضهُ دفْترهُ عليه -وقد كان من أهل الفهْم من أصحابِ الرّأْيِ- بأحسن حالًا من كثيرٍ من أهل بلده وعصره فضلًا عمن بعدهم.