فقولُ أبي حاتم في ابن وارة -مع ما سبق-: "ليس معرفتُه للحديث غريزةً"، وعدمُ وِجْدان أبي حاتم وأبي زرعة مَنْ يذاكرانه في دقائق هذا الفن، يَدُلَّان على غُربة هذا الشأن في بلدهما حينئذٍ، وقِسْ على هذا سائرَ البلدان.
هذا مع وجود جُملةٍ من حُفاظ الحديث المشتغلين به، المُطلعين علي كثير من أحوال رواته في ميادين الرواية ومجالس السماع، فكيف الحالُ إذًا في ما بعد عصور الرواية؟
ولهذه الغُربة، ربما اتُّهِم بعضُ أولئك النقادِ الصيارفةِ بالكهانةِ وادِّعاءِ عِلم الغيب، أو بالتخمين والحَدَس، أو بالتَّكلُّف والتنطُّع ... ومَن جَهِل شيئًا عاداه.
ولما اختص الله تعالى به هذه الفئةَ من ذلك، فقد عَلموا خطورةَ ما كُلِّفُوا به، فحَمَلُوا أنفسَهم على المتاعب، ورفعوا الأَلْوِيَة وسْط المخاطر، لم يَرُعْهُمُ الوَغَى، ولم يأبهوا بكثرة المخالِف.
هم الأئمة العلماء، والسَّادة الفُهَماء، أهْلُ الفضل والفضيلة، والمرتبة الرفيعة، لولا عنايتُهم بضبطِ السُّنن، وجمعِها، واستنباطِها من معادخها، والنظرِ في طُرُقها، لبطلت الشريعة، وتعطَّلت أحكامُها؛ إذ كانت مستخرجةً من الآثار المحفوظة، ومستفادةً من السنن المنقولة.
فمن عَرِف للإسلام حقَّهُ، وأوجب للدين حُرْمَتَهُ، أَكْبَرَ أن يحتقر مَن عظَّم الله شأَنَهُ، وأَعْلَى مكانه، وأظهر حُجَّتَهُ، وأبان فضيلته، ولم يَرْتَقِ بطعنه إلى حزب الرسول، وأتباع الوحي، وأوعية الدين، وخزنة العلم.
ولم يَألُ أئمةُ هذا الفنِّ ومُؤَسِّسُوهُ جهدًا في بيان قواعده، وشرح أصوله، وكشف غُموض مسائله؛ أداءً للأمانة، وتعليمًا للجاهل، ودلالةً للطالب، إلا أنهم لم يضعوا لذلك مصنفاتٍ خاصة، ولم يسلكوا حيال ذلك سبيلَ البَسْط في كل موضع، بل