فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعًا. وحسبك أنه لم يجد أحدًا من علماء الأمة ينسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مَرَّ (ص ١٥) من نسبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدمنا بيان بطلان تلك النسبة.
هذا ونصوص الكتاب والسنة والمتواتر عن الصحابة وإجماع علماء الأمة، كل ذلك يبطل قوله هذا قطعًا، على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة بل تتضمن كما تقدم (ص ١٥) إهمال دلالات القرآن التي نقل ما يخالفها عن بعض من نسب إلى العلم ولو واحدًا فقط، فعلى زعمه: دلالات القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة ولو رواها عدد من الصحابة لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نُقل عن منسوب إلى العلم ما يخالفه وإن كان الجمهور على وفق ذلك الدليل، كأن عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزل أو يضل، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم، هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم لنظريته هذه.
قال:"ولو كانوا فهموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها".
أقول: قد بينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يكتب مصحفًا، وأن أبا بكر وعمر وعثمان مدة من ولايته لم يكتبوا إلا مصحفًا واحدًا بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمال، وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآن كله في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابن سعد وغيرهم أن أبا بكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله.