وكان جماعة آخرون من الصحابة يحدثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مرغب فيه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حدثوا عني ولا حرج" وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السنة. ولكل وجهة، وكلهم على خير، على أنه لما قَلَّ الصحابة رجحت كفة الفريق الثاني.
قال:"بل في نهيهم عنه".
أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور الحاجة.
الثاني: ما صرح به من إيثار أن لا يشغل الناس -يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة- عن القرآن.
وجاء عنه كما يأتي:"أقلوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا فيما يعمل به" والعمل في كلامه مطلق، يَعُمُّ العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية.
قال:"قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن".
أقول: هذه نظريته القائلة: "دين عام ودين خاص" والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم وأنه كما عبر عنه فيما مضى (ص ١٥)"المتفق عليه" وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوي عند مخاطبه أن الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قدرًا يسيرًا هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار من شاء أخذ، ومن شاء ترك، بل إنهم كانوا يرون من الخير إماتة تلك الأحاديث!