من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يَدَّعِ هو العصمةَ لنفسه ولا ادعاها له أحد، وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله.
وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله، فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب بلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف (١) ومن ثم ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف -بله الصحيح- على القياس.
قال:"قوي عندي ذلك الترجيح".
أقول: أما عند من يعرف دينه فهيهات.
قال:"بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة -ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية- فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفًا لأصول الدين".
أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحجة عليك وعليهم مضافة إلى سائر الحجج.
وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح وعدم اتفاقهم على العمل به فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤول أو مرجوح، وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه.
(١) وذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك غيره.