أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية "علماء"؛ لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفًا وضلالا وخروجا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة.
وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله عز وجل لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم {الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقال لهم في أواخر حياة رسوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافية وافية بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته فإنما طعن في الدين نفسه.
وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلا وعلما وهديا، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية "رجال الحديث".
قد يقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن:
عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث.
فالمتثبتون إذا سمعوا خبرا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته.
قال الإمام الشافعي في "الرسالة"(ص ٣٩٩):
"وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه". أهـ