للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول: أما الأحاديث الصحيحة فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقًا في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسوره إلا قريبا من ذلك.

هذا، والبلاغةُ مطابقةُ الكلام لمقتضى الحال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان همُّه إفهامَ الناس وتعليمَهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.

والكلمات المنقولة عن العرب ليست بشيء يُذكر بالنسبة إلى كلامهم كلِّه، وإنما نُقِلَتْ لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يُستطرف من كلامهم غيرها.

وكذلك المنقول من شِعرهم قليل، وإنما نُقل ما اسْتُجِيدَ، والشِّعْر مظنَّة التصنُّع البالغ، ومع ذلك قد تَقرأ القصيدة فلا تهتز إلا للبيت والبيتين.

ثم إن كثيرًا مما نُقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رُوي بالمعنى كما يأتي.

فأما سقم المعنى، فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو رية نفسه (ص ١٠٤)، وذكر ابن أبي حاتم في تقدمة "الجرح والتعديل" (ص ٣٥١) في علامات الصحيح: "أن يكون كلاما يصلح أن يكون من كلام النبوة".

فإن كان أبو رية يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة فمن نفسه أُتِيَ:

ومَنْ يَكُ ذا فَمٍّ مُرٍّ مريضِ ... يَجِدْ مُرًّا بِهِ العَذْبَ الزُّلالا

قوله: " ... أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء" كذا قال، وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقةٌ، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح. ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم. وقد قال أبو رية (ص ١٠٤): "ذكر المحققون أمورًا كلية يُعرف بها أن الحديث موضوع ... " فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى - نقلا عنهم.

فإن قال: ولكن مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>