والمؤمن يعلم أن الهُدى بيد الله، وأنه سبحانه إذا شرع إلى الهدى سبيلا فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعدًا عنه وتعرضا للحرمان منه، وبهذا جاء القرآن، وعليه تدل أحوال السلف، واعتراف بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم.
والدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظن الطريق إلى تلك طريقا إلى هذه فقد ضل ضلالا بعيدا.
واعلم أن أكثر المتكلمين لا يردُّون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأولونها كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة. لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تعسُّفٌ ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث، فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها.
ولهم عدَّة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو رَدِّها -قد طُبع بعضُها- فلم يهملوا الحديث كما زعم أبو رية.
قول أبي رية:"والأدباء" يعني بهم: علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة، قال في (ص ٦): "ولما وصلتُ من دراستي إلى كتب الحديث ألفيتُ فيها من الأحاديث ما يبعد أن يكون في ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه .. . ومما كان يثير عجبي أني إذا قرأت كلمةً لأحدِ أجلاف العرب أهتزُّ لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت بعض ما يُنسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ لا أجد له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة والعاري عن الفصاحة، وهو أبلغ من نطق بالضاد، أَوَ يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة وهو أحكم من دعا إلى رشاد؟ "!.