ومن الموانع: خوف الضرر الدنيوي، وأولئك الكُتَّاب يُعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر المادي، فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفًا من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم، بل أصحاب المصانع والمتاجر الصغيرة يجرون على ذلك غالبا، وإلا لكانت الخصومات مستمرة في الأسواق بل لعلها تتعطل الأسواق فليتدبر القارىء ذلك.
فأما الشطر المعنوي فان أولئك الكُتَّاب لا يقدرون قدره.
فأقول: كان العرب يحبون الشرف، ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل، وفي أوائل "صحيح" البخاري في قصة أبي سفيان بن حرب: أن هرقل لما جاءه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، دعا بمن كان بالشام من تجار قريش، فأُتِي بأبي سفيان ورهطٍ معه قال:"ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيُّكُم أقربُ نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسبا، قال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. قال: فوالله لولا الحياء من أن يأْثِرُوا عليَّ كذبا لكذبت عليه ... ".
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وفي قوله: يأثروا دون قوله يكذبوا دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه ترك ذلك استحياءً وأَنفَةً من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا، فيصير عند سامعي ذلك كذابا. وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك".
أقول: وهذا هو الذي أراه هرقل. ثم جاء الإسلام فشدد في تقبيح الكذب جدًّا حتى قال الله عز وجل:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجلًا كذب عليه فبعث عليا والزبير فقال:"اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه".
وتوهَّمَ رجل من صغار الصحابة أمرًا، فأخبر بما توهَّمَهُ وما يقتضيه، ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة؛ إذ أنزل فيه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}.