وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم، حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخٍ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا: إنه كذاب؛ كذب على البغلة بإيهامها أن في المخلاة شعيرا، والواقع أنه ليس فيها شيء. وفي "تهذيب التهذيب"(ج ١١، ص ٢٨٤): "وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فكنت أول من بكَّر عليه، فسألته أن يملي على شيئًا، فأخذ الكتاب يملي فإذا بإنسان يدق الباب فقال الشيخ من هذا؟ ... فإذا بآخر يدق الباب قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده ثم سقط الكتاب من يده. وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين: قدم علينا عبد الوهاب بن عطاء، فكتب إلى أهل البصرة: وقدِمْتُ بغداد وقَبِلَنِي يحيى بن معين والحمد لله".
فمن تدبر أحوال القوم بأن له أنه ليس العجب ممن تحرز عن الكذب منهم طول عمره، وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب، كما أنه من تدبر كثرة ما عندهم من الرواية وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه، وتدبر تعنت أئمة الحديث بان له أنه ليس العجب ممن جرحوه بل العجب ممن وثقوه.
ومن العجب أن أولئك الكُتَّاب يلاحظون الموانع في عصرهم هذا، بل في وقائعهم اليومية، فيعلمون من بعض أصحابهم أنه صدوق فيثقون بخبره، ولو كان مخالفًا لبعض ما يظهر لهم من القرآن بحيث لو كان المدار على القرائن لكان الراجح خلاف ما في الخبر، ويعرفون آخر بأنّه لا يتحرز عن الكذب فيرتابون في خبره ولو ساعدته قرائن فلا تكفي وحدها لحصول الظن، وهكذا يصنعون في أخبار مكاتبي الصحف وفي الصحف أنفسها؛ فمن الصحف ما تعوَّد الناس منها أنها لا تكاد تنقل إلا الأخبار الصحيحة، فيميلون إلى الوثوق بما يقع فيها وإن خالف القرائن، وفيها ما هو على خلاف ذلك.