وبالجملة فلا يرتاب عاقل أن غالب مصالح الدنيا قائما على الأخبار الظنية، ولو التزم الناس أن لا يعملوا بخبر من عرفوا أنه صدوق حتى توجد قرائن تغني في حصول الظن عن خبره لاستغنوا عن الأخبار، بل لفسدت مصالح الدنيا.
ولست أجهل ولا أجحد ما في طريقة الكُتَّاب من الحق ولكنني أقول: ينبغي للعاقل أن يفكر في الآراء التي يتظناها العقلاء في عصرهم نفسه بناء على العلامات والقرائن، أليس يكثر فيها الخطأ؟ هذا مع تيسر معرفتهم بعصرهم وطابع أهله وأغراضهم وسهولة الاطلاع على العلامات والقرائن، فما أكثر ما يقع لأحدنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع الأمر، ثم لا يقع، وتقتضي أن لا يقع، ثم يقع، فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون، ولا سيما إذا لم يتهيأ للناظر تتبع ما يمكن معرفته من القرائن والأمارات ولم يلاحظ الموانع، فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح.
والناظر إنما يشتد حرصه على الإصابة في القضايا العصرية؛ لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف ما زعم، فأما التي مضت عليها قرون -والباحثون عنها قليل- فإنه لا يبالي، اللهم إلا أن يكون متدينا محترسا من الهوى، على أن الأستاذ لم يخلص لطريقة الكُتَّاب، بل كثيرا ما يرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره، ويحاول اصطناع خلافها، وسدّ الفراغ بالتهويل والمغالطة، كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب. وأسأل الله لي وله التوفيق. اهـ