نكارتها، فتجدُهم يُقوُّون بها أحاديث ضعيفةً، ويُضمِّدُون بها أخبار جريحةً، ويتبارى القاصروُن في تصحيح تلك المناكير، غيرُ مُلْتفِتِين إلى أنّ الناقد خبيرٌ.
وقد كان للنُّقّادِ عنايةٌ خاصّةٌ بالتعرفِ على غرائب الحديث، وأوهامِ الرواةِ، وكانت جُلُّ مذاكراتهم إنما تدورُ حوْل هذا النوع من الحديث، فيتذاكرون عِلل الأحاديث، وأخطاء الرواة، ويقومون بالفحْصِ عنها والتفتيشِ عن مظانها، حتى إنهم ليتنافسون في معرفتها والوقوف عليها.
وقد سبق إيرادُ قولِ أبي حاتمِ:"جرى بيني وبين أبي زرعة يومًا تمييزُ الحديث ومعرفتُه، فجعل يذكرُ أحاديث ويذكرُ عللها، وكذلك كنتُ أذكرُ أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشُّيوخ .. "
وكان لأصحاب الحديث لُغةٌ يُعبِّرُون بها عن تلك الغرائب، قال الإمام أحمد:"إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريبٌ أو فائدةٌ، فاعلم أنه خطأٌ، أو دخل حديثٌ في حديثٍ، أو خطأٌ من المحدِّثِ، أو حديثٌ ليس له إسنادٌ، وإن كان قد روى شعبةُ وسفيانُ. فإذا سمعتهم يقولون: لا شيء فاعلم أنه حديثٌ صحيحٌ"(١).
وقوله "لا شيء" أى ليس هو من جنس ما يعتنون بتحصيله ومعرفته، وإنما هو حديث صحيح مشهور.
وقد كان النقادُ -مع معرفتهم بتلك الغرائب- يمدحُون المشهور من الحديث، ويذمُون الغريب منه؛ خشية أن يتتبعها من لا علم له، فيسقط فيها.
قال عبد الله بن المبارك:"العلم هو الذي يجيئك من هاهنا ومن هاهنا" يعني المشهور. وقال الإمام مالك:"شرُّ العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس". وقال الإمام أحمد:"شرُّ الحديث الغرائبُ التى لا يُعملُ بها ولا يُعْتمدُ عليها". وقال أيضًا:"تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب، ما أقلّ الفقه فيهم! ".