ومما يجب التنبيه له أنه قد يثبت من جهة السند نصٌ يستنكره بعض النقاد، وحَقُّ مثل هذا أن لا يبادَر إلى ردِّه، بل يمعن النظر في أمرين:
الأول: معنى النص، فقد يكون المراد منه معنى غير الذي استنكر.
الثاني: سبب الاستنكار، فكثيرا ما يجيء الخلل من قِبَلِهِ.
وقد تقضي القرائنُ وقوعَ أمرٍ سكتت عنه الروايات الصحيحة، وتَرِد روايةٌ واهيةُ السند فيها ما يؤدى ذاك الأمر في الجملة فيبادر الناقد إلى تثبيتها، وفي هذا ما فيه.
ألا ترى أنه قد يجيئك شخصٌ ضربه آخر فتسأله: لم ضربك؟ فيقول: بلا سبب. فترتاب في صدقه، فإذا جاء خصمه فقال: إنما ضربته لأنه سبني سبا شنيعا، قال: كيت وكيت، ظننتَ أنه صادقٌ في الجملة، أي أنه قد كان سبٌّ، ولكنه قد يكون دون ما ذكره الضارب بكثير.
فالصواب أن تذكر الرواية، وأنها واهية السند، ثم يقال: ولكن القرائن تقتضي أنه قد كان شيءٌ من ذاك القبيل.
مِنْ أين تُؤْخَذُ القواعدُ النظريةُ في هذا الفن؟ وكيف يُفهم التطبيقُ العَمَليّ لها؟
فأقول، وبالله تعالى التوفيق:
أما الشِّقُّ الأول من السؤال؛ فلا يختلف ناظران ولا باحثان في علمٍ من العلوم أو فَنٍّ من الفنون أن لِكُلٍّ رجالًا يُؤْخَذُ عنهم حدودُه وأقسامُه، ومعاني مصطلحاته، وغير ذلك مما لا يقوم إلا به.
وهؤلاء الرجال يتعاقبون جيلًا بعد جيلٍ، يضع الأوائل منهم قواعدَه وأصولَه، ويُبَيِّنُون أُسسَهُ ومبادئه، ويحدُّون ضوابطَه، ثم يسير مَن بَعْدهم على خُطاهم.