والسبيل إلى الوقوف على دقائق هذا الفن وخفاياه إنما هو بالتصدي لاستقراء تلك الكتب، ممن له الأهلية في ذلك؛ إذ الأمر يحتاج إلى خلفيات متعددة يُستقرأ من خلالها، من أهمها:
١ - الإلمام بأحوال مشاهير الرواة، ومَن تدور عليهم الأحاديث في البلدان المختلفة، من حيث: طبقاتهم، ومراتبهم، وأصحاب كل منهم، ورحلاتهم، ونحو ذلك من أحوالهم.
٢ - ثم ينبغي أن يتحلى المستقرأ بالخبرة اللازمة لفهم عبارات وتصرفات الأئمة.
٣ - ويتصف مع ذلك بالإنصاف والخشية والورع.
٤ - ويكون مُنْزلا لكل إنسان منزلته اللائقة به، فلا يضع مَنْ حَقُّهُ الرفعُ أو العكس.
٥ - ويكون محترِما لأهل هذا الفن، مُقَدِّرًا لهم، لا يتقدم عليهم بهواه أو بإعجابه برأيه، بل يَتَّهِم نفسه بالقصور نحوهم، ويضع من نفسه حيال علمهم، وما حباهم الله عز وجل، ضارعا إلى الله تعالى أن يَمُنَّ عليه بفهم طريقتهم كأقرب ما يكون مرادهم، ثم التوفيق من عند الله سبحانه.
ثم إن مما يُعينُ الطالبَ على إدراك حدودِ هذا العلم ورَسْمِه: ما بدأه أبو عمرو بن الصلاح (المتوفى سنة ٦٤٣ هـ) من محاولة جمع الأبواب والفصول المستخرجة مِنْ كتب مَنْ سبق، فوضع كتابه الشهير في "أنواع علوم الحديث"، وتلاه جمعٌ من أهل الحديث وغيرهم ممن أَثْرَوا هذا المجال بمصنفات عِدَّه، اعتمدوا في وضعها على كتاب ابن الصلاح.
وقد وصف ابن الصلاح نفسُهُ كتابَه وسبب تأليفه له، فقال في صدره:
"لقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيمًا، عظيمةً جموعُ طلبته، رفيعةً مقاديرُ حفاظه وحملته، وكانت علومهم بحياتهم حَيَّةً وأفنان فنونه ببقائهم غَضَّة، ومغانيه بأهله آهلة.