وآخر غني، ضعيف البنية، ضعيف الشهوة، لم يتزوج حتى شاخ وضعف، فتعرض مرة لامرأة لو شاء لتزوجها، ولكنه لم يلتفت إلى ذلك، بل تبعها ووقع عليها، فظاهرٌ أن ذنب هذا الشيخ الذي لم يحصن أغلظ من ذنب ذلك الشاب الذي قد أحصن بدرجات، ولكن مع ذلك حَدّ الشاب المحصن الرجم، وحَدّ الشيخ الذي لم يحصن الجلد.
إلا أننا نقول: إن الحكمة اقتضت في القانون الكلي أن يُناط الفرقُ بالإحصان وعدمه، والله سبحانه وتعالى هو الرقيب على عباده، يطبق العدل بقضائه وقدره، كأن يستر ذلك الشاب، ويفضح هذا الشيخ، أو غير ذلك، فإنه سبحانه بكل شيء خبير، وعلى كل شيء قدير.
ومن ذلك: القاتل إذا تعمد الضرب قد تكون عقوبته الدية، وقد تكون القتل قودا، والمعقول أن جرمه إنما يختلف بأن يكون قصد القتل أو لم يقصده، ولكن قصده القتل أمر خفي لا يعلم كما ينبغي إلا بقوله، والقاتل غالبا يدفع عن نفسه القتل، فهو وإن قصد القتل -حري بأن يقول: لم أقصده، والقرائن عامتها تشتبه، فناط الشارعُ الفرقَ بأقوى القرائن، وهي الآلة، وموضع الضرب بها، فإن كان الضرب في ذلك المكان من قِبل تلك الآلة من شأنه أن يَقتل حُكم بالقود؛ إذ الغالب أن القاتل قصد القتل، وإلا فلا، وكأنه -والله أعلم- بناء على هذا ذهب مالك: إلى أن الوالد إذا قتل ولده قتلة شنيعة كأن أضجعه فذبحه وجب القصاص، وإلا فلا، كأنه بنى دفع القصاص عن الوالد بأن الغالب أنه لا يقصد القتل، فلم يوجب القصاص عليه إلا في الحال التي يمتنع فيها أن يكون لم يقصد القتل.