للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يجيء عن فلان، وإنما هذا كذا، فلم أزل أخبره حتى أوقفتُه على كُلِّهِ، ثم قلتُ له: فإني حفظتُ جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبتُ على الشيخ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى علىّ مثل هذا، فاتق الله سبحانه يارجُل". اهـ.

فانظر إلى هذا الحفظِ العجيب، يحفظُ ما انتخبه على الشيخ ساعة انتخابِه له، ثم يفارقُه الكتابُ قبل أن يعاود النظر فيه، إلى ستة أشهر، ثم هُو لا يخْرِمُ منه حرفًا!

وتدبّرْ قوله: "ليس هذا من حديث ابن أبي فديك .. فإنّه لا يجيء عن فلان" وتذكر ما أشرنا إليه من حقيقة "الإحصاء".

وأدق من ذلك "أن رجلًا دفع إلى أبي زرعة حديثًا فقال اقرأ، فلما نظر أبو زرعة في الحديث قال: مِنْ أيْن لك هذا؟ قال: وجدتُه على ظهْرِ كتابٍ ليوسف الوراق. قال أبو زرعة: هذا الحديث من حديثي، غير أنِّي لم أحدِّثْ به. قيل له: وأنت تحفظُ ما حدثت به مما لم تحدث به؟ قال: بلى، ما في بيتي حديثٌ إلا وأنا أفهمُ موْضِعهُ" (١).

فكمْ من حديثٍ سمِعهُ الناقد أو كتبه، ثم أعرض عنه ولم يحدثْ به، لمِا علِم من شُذوذه، أو خطأ راويه، ولذا فإنّ عدم تداولِ أهلِ النقد لحديث بالروايةِ ليُشِيُر إلى حاله واستحقاقه للترك والهجر.

وأكثر بيانًا في "الحفظ" ما ذكره ابن أبي حاتم (٢) قال: حضر عند أبي زرعة: محمد ابن مسلم "بن وارة" والفضل بن العباس المعروف بالصائغ، فجرى بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثًا فأنكر فضلٌ الصائغ .. فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: ايش تقول، أيُّنا المُخْطِىءُ؟ فسكت أبو زرعة .. وجعل يتغافل -فألحّ عليه محمد بن مسلم- فقال أبو زرعة: هاتوا أبا القاسم ابن أخي فدعى به، فقال: اذهب وادخل بيت الكُتُب، فدعِ القمطر الأول، والقمطر الثاني، والقمطر الثالث، وعدّ ستة عشر


(١) التقدمة (ص ٣٣٣).
(٢) "التقدمة" (ص ٣٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>