ومن أسباب الفضل للثاني والثالث أنه لم يزل فيهما بقايا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنتهى ذلك بعد انتهاء المائة بقليل مصداقا لقوله -صلى الله عليه وسلم- قبيل موته:"أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"(١).
هذا، والظاهر أنه يدخل في القرن الأول من أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجتمع به، وكذلك من أسلم بعده بقليل، وكذا من ولد بعده بقليل، بحيث يكون منشؤه في عهد كثرة الصحابة وظهورهم؛ فإنه يقتدي بهم، ويقتبس من أخلاقهم وآدابهم حتى يستحكم خلقه على ذلك، ولا مانع من أن يكون هؤلاء في القرن الأول وإن لم يكونوا صحابة.
وعلى هذا فالدرجات تتفاوت: فمن ولد بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرب إلى نيل خصائص القرن الأول ممن ولد بعده بخمس سنوات -مثلا- وهكذا، حتى إن من ولد بعده -صلى الله عليه وسلم- بخمس عشرة سنة أقرب إلى القرن الثاني، وقد يكون بعض من يولد متأخرا أمكن في خصائص القرن الأول ممن ولد متقدما لأسباب أخرى، ككثرة مجالسة أفاضل الصحابة, وقس على هذا.
ومن استحكمت قوته في عهد القرن الأول فهو منهم وإن بقي إلى القرن الثاني والثالث، وهكذا، وقد يكون هذا هو السر -والله أعلم- في الشك في أكثر روايات الحديث وكرر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم الذين يلونهم" مرتين أو ثلاثا، وذلك أنه بعد انتهاء قرنه ثم الذي يليه, ثم الذي يليه، تبقى جماعة من أهل الثالث يعيشون في الرابع.
هذا وقد احتج بهذا الحديث على أن الظاهر في التابعن وأتباعهم العدالة، فمن لم يجرح منهم فهو عدل.
(١) أخرجه البخاري (١١٦) (١/ ٢٥٥)، و (٥٦٤) (٢/ ٥٤)، و (٦٠١) (٢/ ٨٨)، ومسلم (٢٥٣٧) (٤/ ١٩٦٥) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.