وقد يوجه ذلك بأن الخير لم يرتفع من الأمة جملة بعد تلك القرون، فثناؤه -صلى الله عليه وسلم- عليها، وذمُّهُ منْ بعدها إنما هو بناء على الأغلب، فكأنه يقول: إن غالب أهلها أخيار، وغالب من بعدهم أشرار، وإذا ثبت أن غالبهم أخيار فمن لم يعرف حاله منهم حمل على الغالب.
أقول: وفي هذا نظر من وجهين:
الوجه الأول: أنه قد يجوز أن يكون -صلى الله عليه وسلم- راعَى الكثرة, فيكون حاصل ذلك أن القرن الأول -وهم الصحابة ومن انضم إليهم- غالبهم عدول، والقرن الثاني نصفهم عدول، والقرن الثالث ثلثهم عدول، والثلث كثير، وأما بعد ذلك فإن العدالة تقل عن ذلك، وعلى تسليم الغلبة في القرن الثاني -أيضا- فقد يكون في الثالث التعادل، واستحقوا الثناء؛ لأن شرهم لم يكن كثر من خيرهم، بخلاف من بعدهم.
الوجه الثاني: أن الغلبة تصدق بخمسة وخمسين في المائة -مثلا- ومثل هذا لا يحصل به الظن المعتبر في أن من لم يعرف حاله من المائة فهو من الخمسة والخمسين، ولو قال المحدث: أكثر مشايخي ثقات لما كان توثيقا لمن لا يعرف حاله منهم.
وتمام هذا البحث يأتي في الكلام على المجهول - إن شاء الله تعالى. اهـ.
قال أبو أنس:
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى ارتباط هذا المبحث بمناقشة طائفة ممن صنفوا في ثقات الرواة؛ إذ اعتمدوا على ما حكاه المعلمي من اعتبار أن الظاهر في التابعين وأتباعهم العدالة، فمن لم يجرح منهم فهو عدل.
راجع مزيدًا من إلقاء الضوء على هذه القضية في ترجمة ابن حبان من القسم السابق من هذا الكتاب.