فأما توهم حِلّ الكذب في مصلحة الدين فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدهم غفلة؛ لأن حظر الكذب مطلقًا هو من أظهر الأحكام الشرعية.
وأولئك الكُتَّاب لا يعرفون هذا المانع لأنهم لا يجدونه في أنفسهم ولا يجدون فيمن يخالطونه مَنْ تقهرهم سيرته على اعتقاب اتصافه بهذا المانع لضعف الإيمان في غالب الناس ورقة التدين.
ولا يعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع؛ لأنهم إنما يطالعون التواريخ وكتب الأدب كـ "الأغاني" ونحوها، وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة ... ولو عكف أولئك الكُتَّاب على كتب السُّنَّة ورجالها وأخبارهم لعلموا أن هذه الطائفة, وهي طائفة أصحاب الحديث، كان ذلك المانع غالبًا فيهم ...
ومن الموانع: خوف الضرر الدنيوي، وأولئك الكُتَّاب يعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر الماديّ، فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفًا من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم ...
فأما الشطر المعنوي فإن أولئك الكُتَّاب لا يقدرون قدره.
فأقول: كان العرب يحبون الشرف ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل، وفي أوائل "صحيح" البخاري في قصة أبي سفيان بن حرب: "أن هرقل لما جاء كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بمن كان بالشام من تجار قريش، فأتي بأبي سفيان ورهط معه قال: دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقربهم نسبًا، قال: أدنوه مني، قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره, ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كَذَبَني فَكَذِّبُوه قال: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبًا لكذبت عليه ... ".