قال ابن حجر في "فتح الباري": "وفي قوله: يأثروا دون قوله: يكذبوا دليل على أنه كان واثقًا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه ترك ذلك استحياءً وأَنَفَةً من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابًا، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك".
أقول -المعلمي: وهذا هو الذي أراده هرقل، ثم جاء الإسلام فشدّد في تقبيح الكذب جدًّا حتى قال الله عز وجل:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}[النحل: ١٠٥].
وتوهَّم رجل من صغار الصحابة أمرًا فأخبر بما توهمه وما يقتضيه ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة إذ أنزل فيه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: ٦].
ثم كان الصحابي يرى من إكرام التابعين له وتوقيرهم وتبجيلهم ما لا يخفى أثره على النفس ويعلم أنه إن بان لهم منه أن كذب كذبة سقط من عيونهم مقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمنًا وإنما كان منافقًا.
وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال، ودام ذلك زمانا ولم يبلغنا عن أحدٍ منهم أنه رمى مخالفه بالكذب في الحديث.
وكان التابعون إذا سمعوا حديثًا من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة ولم يبلغنا أن أحدًا منهم كذب صاحبه، غاية الأمر أنه قد يخطئه ...
ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشح لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائبًا في الطلب والحفظ والجمع ليلًا ونهارًا أو يرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان، ويقاسي المشاقَّ الشديدة كما هو معروف في أخبارهم، ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه.