قلت: الوصف بـ "الترك" عند علماء الجرح والتعديل أشد من الوصف بـ"النكارة" و"المتروك" يلي "الموضوع" في مراتب الجرح عندهم، فإطلاق الأخف على الأشد له وجه محتمل -وذلك عند التفرد، لكن عند اجتماعهما والمقارنة بينها يجب التفريق- هذا من غير عكس لذلك الإطلاق، وهو الذي صنعه السيوطي، حيث أطلق الأشد -وهو "المتروك" على الأخف- وهو "المنكر". فقول الحافظ إذن: "رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة" لا إشكال فيها ... لكن يبقى النظر في وصف مسلم للراوي، والذي أطلق عليه الحافظ لفظ "الترك"، مع مقارنته باصطلاحه في "النخبة". فأقول: هذا الوصف هو "مخالفة الثقات"، وينقسم صاحبه عند الحافظ في "النخبة" إلى أحد قسمين: "الشاذ" إذا كان المخالف ثقة, و"المنكر" إذا كان المخالف ضعيفا، فإطلاق الحافظ وصف "المتروك" عليه يعد قولا ثانيا له في حد "المتروك"، يمكن أن تحمل عليه مقالة السيوطي في "التدريب" .. فيقال: "مخالفة الثقة" إنما هي أثر ونتيجة لعدة أوجه من الطعن في الراوي، تخل بضبطه؛ كفحش الغلط, وفرط الغفلة، وكثرة النسيان. فإطلاق السيوطي على من كان هذا حاله -بالإضافة إلى "الفسق"- لفظ "الترك"، يعتبر جمعا بين قولي الحافظ في "النخبة" وفي "النكت"، سواء قصد السيوطي ذلك أم كان وهما في النقل عن "النخبة" كما قدمنا. هذا، وقد نقل عن شعبة بن الحجاج في حد "المتروك" ما يوافقه كلام السيوطي، ففي "شرح الألفية" للسخاوي: (ص ١٦٠، ١٦١): "قال ابن مهدي: سئل شعبة: من الذي يترك حديثه. قال: من يتهم بالكذب، ومن يكثر الغلط, ومن يخطىء في حديث يجمع عليه فلا يتهم نفسه ويقيم على غلطه، ورجل روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون". وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (٢/ ٢٣٠): " ... وإن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظا أو إسنادا يصيره متروك الحديث". وكذا قال الخليلي في "الإرشاد" (١/ ١٧٦): "والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غيره، فما كان عن غير ثقة "فمتروك"، وما كان عن ثقة توقف فيه ولا يحتج به". اهـ. لكن قول الخليلي: "ما ليس له إلا إسناد واحد" يشير إلى التفرد مع عدم المخالفة، وكذا بدا لي أن قول السيوطي السالف الذكر "فالحديث الذي لا مخالفة فيه ... " يرجح أنه لم يقصد نقل كلام الحافظ في "النكت" بل هو وهم في نقل كلام "النخبة" أو يكون إنشاء من عنده. والله تعالى أعلم بالصواب. =