للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا تقرر هذا، فما المانع من الأخذ بهذه الدلالة الظاهرة، المحصلة للظن، المستوفية لنصاب الحجية؟!

إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل، بدليل شيوع الإرسال فيهم.

قلت: أما الإرسال الجلي فَمُسَلَّمٌ، ولكن أقل من الإسناد، كما يعلم بالاستقراء، فهو كالمجاز، لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه.

وأما الخفي فقليل، حتى إنه أقل من التدليس.

فإن قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري -رحمهما الله تعالى- إلى اشتراط اللقاء يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف.

قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال، مع أن مسلمًا: نقل في مقدمة "صحيحه" الإجماع على عدم اشتراط اللقاء -أي قبلهما- كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه، فقيل: "إنه أراد به البخاري"، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني؛ فقد كان -أيضًا- معاصرًا له، فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق، على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية عن السماع، والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع؛ بدليل تصحيحهما لعنعنة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أن الظاهر من الرواية السماع لكانا إنما يعتمدان مجرد اللقاء، فيلزمهما أن يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه، وهذا كما ترى، وإنما اشترطا ثبوت اللقاء؛ لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا، ولكنه لا يقتضي إهدار الدلالة الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء ما دامت دلالته ظاهرة؛ مُحَصِّلة للظن مستكملة النصاب كما مَرَّ، وقد ألزمهما مسلم -رحمهم الله- عدم تصحيح المعنعن أصلًا؛ لأنه كما أن عنعنة من لم يثبت لقاؤه تحتمل عدم السماع، فكذلك من ثبت لقاؤه.

وأجيب بأن احتمال السماع في الثاني أقوى.

<<  <  ج: ص:  >  >>