(١) أما الإرسال الجلي فلا نزل فيه؛ لأن المرسِل يتكل على وضوح القرينة الصارفة عن الأصل، وهذا إنما هو كشيوع المجاز، لا يقتضي إلغاء الحقيقة، وأما الإرسال الخفي، فلنا جوابان عنه [أ، ب]:
أ- لا نُسلم شيوعه، والاستقراء يدل على قِلَّتِه؛ فإن أكثر رواية التابعين وتابعيهم المتصلة مُعَنْعَنَة، ولو كان الإرسال الخفي شائعًا فيهم لأقلُّوا خشية الإيهام.
(٢) لعلهم كانوا يتَّكِلُون على ثبوت اللقاء.
(١) ما كل سامع لحديثهم مطلع على اللقاء، فالإيهام باق بالنسبة إلى من لم يطلع.
(٢) لعلهم كانوا يتَّكِلُون على أن من لم يطلع على ثبوت اللقاء يَسأل عنه.
(١) قد يتساهل فلا يسأل، مع أنه قد يغلب على ظنه ثبوت اللقاء؛ للقرائن المتقدمة، فالأسهل والأحوط التصريح بالتحديث من أول وهلة، ولا حامل على تركه.
فتبين أنهم كانوا يعنعنون المتصلات لاعتقادهم دلالة ذلك على السماع، بل إذا تتبعت رواية المدلسين وجدهم كثيرًا ما يعنعنون المتصلات، فلماذا يعنعنون مع علمهم بأن عنعنتهم لا تحمل على السماع لتدليسهم؟ هل يقال: إنهم كانوا يريدون أن يوهموا أنهم لم يسمعوا تلك الأحاديث، والحال أنهم سمعوها، هذا عكس التدليس المتعارف.
فالتدليس: إيهامُ السماع مع عدمه، وهذا إيهام عدم السماع مع ثبوته، وغرض المدلس إنما يتعلق بالأول دون الثاني.
فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون جريًا على الأصل والعرفِ المطرد في الاكتفاء بالعنعنة في المسموع.
ب- الإرسال الخفي تدليس، والكلام في الراوي غير المدلس، فإذا سوَّيْتُم بين من وُصف بالتدليس وغيره لزمكم أن تردوا المعنعن مطلقًا، كما ذكره مسلم رحمه الله تعالى.