أقول: فمُسْلمٌ يقول: الحال هكذا أيضًا في رواية غير المدلس عمن عاصره، والرواية عن المعاصر على وجه الإيهام تدليسٌ أيضًا عند الجمهور، ومن لم يطلق عليها ذلك لفظًا لا يُنكر أنها تدليسٌ في المَعْنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإيهام عمن قد سمع منه.
هذا، وصنيعُ مسلمٍ يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليسًا إذا كان على وجه الايهام، ويوافقه ما في "الكفاية" للخطيب (ص ٣٥٧)(١).
وذكر مسلم أمثلةً، فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه، ولم تعد تدليسًا ولا عُدُّوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الراوية تدفع ظهور الصيغة في السماع، وقد كنت بسطت ذلك، ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه.
ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي أن التدليس يثبت بمرة؛ لأنا نقول: هذا مُسَلَّمٌ، ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليسًا بأن تكون بقصد الإيهام، والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك، بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين.
(١) قال الخطيب: "الضرب الأول: تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه، ويعدل عن البيان بذلك، ولو بين أنه لم يسمعه من الشيخ الذي دلسه عنه فكشف ذلك لصار ببيانه مرسلا للحديث غير مدلس فيه؛ لأن الأرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعًا ممن لم يسمع منه وملاقيًا لمن لم يلقه، إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن للإرسال لا محالة من حيث كان المدلس ممسكًا عن ذكر من بينه وبين من دلس عنه، وإنما يفارق حاله حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمع منه فقط، وهو الموهن لأمره، فوجب كون هذا التدليس متضمنًا للإرسال، والإرسال لا يتضمن التدليس؛ لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه، ولهذا المعنى لم يذم العلماء من أرسل الحديث وذموا من دلسه". اهـ.