الأولى: أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوره أبو رية، بل قد اعتمد عليه في القرآن، وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عز وجل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر، وسنين من عهد عثمان؛ لأن تلك القطع التي كُتب فيها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت مفرقةً عند بعض أصحابه، لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم، ثم لما جُمعت في عهد أبي بكر لم تنشر هي ولا الصحف التي كُتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة المواضع التي يَحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حتى استقر تدوين القراءات الصحيحة.
النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن -مع أن ألفاظه مقصودةٌ لذاتها؛ لأنه كلام رب العالمين بلفظه ومعناه معجزٌ بلفظه ومعناه متعبَّدٌ بتلاوته- فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟
وإذا علمنا ما تقدم ... وعلمنا ما دلت عليه القواطع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبين لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كل ما كان منه مما فيه بيانٌ للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته ... وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بكتابة الأحاديث، وأقرهم على عدم كتابتها، بل قيل: إنه نهاهم عن كتابتها كما بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعلمنا أن عادة الناس قاطبةً فيمن يُلقى إليه كلامٌ؛ المقصود منه معناه ويؤمر بتبليغه: أنه إذا لم يحفظ لفظه على وجهه، وقد ضبط معناه، لزمه أن يبلغه بمعناه، ولا يُعَدُّ كاذبًا ولا شِبهَ كاذب، علمنا يقينًا أن الصحابة إنما أُمروا بالتبليغ على ما جرت به العادة: من بقي منهم حافظًا لِلَّفْظ على وجهه فليؤدِّه