ومن الحكمة في ذلك إعلامُ الناس أن ما يقع منه -صلى الله عليه وسلم- عند الإنكار كثيرا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب، لا على وجه الحُكم، وفي مجموع الأمرين حكمةٌ أخرى، وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عَلم من طباع أكثر الناس أن أحدَهم إذا غضب جرى على لسانه من السَّبِّ والشَّتْمِ واللعن والطعن ما لو سُئل عنه بعد سكون غضبه لقال: لم أقصد ذلك، ولكن سبقني لساني، أو لم أقصد حقيقته، ولكني غضبت، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينبه أمته على هذا الأصل؛ ليستقر في أذهانهم، فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك حالَ الغضب على ظاهره جزما.
وكان حذيفةُ ربَّما يذكرُ بعضَ ما اتَّفَقَ من كلماتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- عند غضبِه، فأنكرَ سلمانُ الفارسي ذلك على حذيفة -رضي الله عنهما-، وذكر هذا الحديث.
وسُئل بعضُ الصحابة وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة عن شيء من ذلك، فأراد أن يخبر، وكانت امرأته تسمع، فذكرته بهذا الحديث، فَكَفَّ.
فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلماتِ العلماء عند الغضب، وأن يراعوا فيما نُقل منها هذا الأصل.
بل قد يقال: لو فُرض أن العالم قَصد عند غضبه الحُكْمَ، لكان ينبغي أن لا يُعتدَّ بذلك حُكما؛ ففي "الصحيحين" وغيرهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"لا يَقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" لفظ البخاري.
والحُكْمُ في العلماء والرواة يحتاجُ إلى نَظرٍ وتدبرٍ وتثبتٍ أشد مما يَحتاج إليه الحُكم في كثير من الخصومات، فقد تكون الخصومةُ في عشرة دراهم، فلا يُخشى من الحُكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم، فأما الحُكم على العالم والراوي فيُخْشى منه تفويتُ علمٍ كثيرٍ وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن إلا حديثا واحدا، لكان عظيمًا.