ومما يخرج مَخرجَ الذمِّ، لا مخَرج الحُكم: ما يُقصد به الموعظةُ والنصيحةُ، وذلك كأنْ يبلغَ العالمَ عن صاحبه ما يكرهُه له، فيذمُّه في وجهه أو بحضرة من يبلغه، رجاءَ أن يَكُفَّ عما كرهه له، وربما يأتي بعبارةٍ ليست بكذب، ولكنها خشنة موحشة، يقصد الإبلاغَ في النصيحة ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حي.
وربما يكون الأمرُ الذي أنكره أمرا لا بأس به، بل قد يكون خيرا، ولكن يخشى أن يَجُرَّ إلى ما يكره؛ كالدخول على السلطان، وولاية أموال اليتامى، وولاية القضاء، والإكثار من الفتوى.
وقد يكون أمرا مذموما، وصاحبُه معذور، ولكنَّ الناصحَ يُحِبُّ لصاحبه أن يعاودَ النظرَ، أو يحتالَ، أو يُخفيَ ذاك الأمر.
وقد يكونُ المقصودُ نصيحةَ الناس؛ لئلا يَقعوا في ذلك الأمر؛ إذ قد يكون لمن وقع منه أو، عذرٌ، ولكن يُخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين، ومن هذا كلماتُ التنفير التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل الثاني.
وقد يَتسمَّحُ العالمُ فيما يحكيه على غير جهة الحُكم، فيستندُ إلى ما لو أراد الحُكم لم يستند إليه، كحكايةٍ منقطعةٍ، وخبرِ مَنْ لا يَعُدُّ خبرَه حُجَّةً، وقرينةٍ لا تكفي لبناء الحكم، ونحو ذلك.
وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال:"لا تنظر إلى عملِ العالم، ولكنْ سَلْهُ يصدقْك".
وكلامُ العالم إذا لم يكن بقصد الرواية أو الفتوى أو الحكم: داخلٌ في جملة عملِه الذي ينبغي أن لا يُنظرَ إليه، وليس معنى ذلك أنه قد يَعملُ ما ينافي العدالة، ولكن قد يكونُ له عذرٌ خفي، وقد يترخَّص فيما لا ينافي العدالة، وقد لا يتحفظ ويتثبت كما يتحفظ ويتئبت في الرواية والفتوى والحكم.