ومنهم المعتدلُ، ومنهم البالغُ التثبتُ؛ كان في اليمن في قضاء الحجرية قاضٍ، كان يجتمعُ إليه أهلُ العلمِ، ويتذاكرون، وكنتُ أحضرُ مع أخي، فلاحظت أن ذلك القاضي مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول:"في حفظي كذا، في ذهني كذا"، ونحو ذلك، فعلمتُ أنه ألزمَ نفسَهُ تلك العادة، حتى فيما يجزم به، حتى إذا اتَّفَقَ أن أخطأ كان عذرُه بغاية الوضوح.
وفي ثقاتِ المحدثين مَنْ هو أبلغُ تحريًا من هذا، ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشك فيه مدخلًا، ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال.
رُوي أن شعبةَ سألَ أيوب السختياني عن حديثٍ، فقال: أَشَكُّ فيه، فقال شعبة: شَكُّكَ أحبُّ إليَّ من يقين غيرك.
وقال النضر بن شميل عن شعبة: لأن أسمع من ابن عون حديثًا يقول فيه: "أظن أني سمعتُه" أحبُّ إليَّ من أن أسمع من ثقةٍ غيره يقول: "قد سمعتُ".
وعن شعبة قال:"شَكُّ ابنِ عونٍ وسليمانِ التيمي يقينٌ".
وذَكر يعقوبُ بنُ سفيان حمادَ بن زيد، فقال:"معروفٌ بأنه يُقصر في الأسانيد، ويُوقف المرفوع، كثيرُ الشَّكِّ بتوقِّيه، وكان جليلًا، لم يكن له كتابٌ يُرجع إليه، فكان أحيانًا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانًا يهاب الحديث ولا يرفعه".
وبالغَ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، فكان إذا سُئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب.
قال أبو طاهر السلفي: سألت أبا الغنائم النرسي عن الخطيب، فقال:"جبل لا يُسألُ عن مثله، ما رأينا مثل وما سألتُه عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع كتابه".