وإذا سبقَ إلى نَفْسِ الإنسان أمرٌ -وإن كان ضعيفًا عنده- ثم اطَّلَعَ على ما يحتملُ موافقةَ ذلك السابقِ، ويحتملُ خلافَهُ، فإنه يترجحُ في نفسه ما يوافقَ السابقَ، وقد يَقْوَى ذلك في النفس جدًّا وإن كان ضعيفًا.
وهكذا إذا كانت نفسُ الإنسانِ تَهْوَى أمرًا، فاطَّلَعَ على ما يحتملُ ما يوافقه وما يخالفه، فإن نفسه تميل إلى ما يوافق هواها.
والعقلُ كثيرًا ما يحتاج عند النظر في المحتملات والمتعارضات إلى استفتاء النفس لمعرفة الراجح عندها، وربما يشتبه على الإنسان ما تقضي به نفسه بما يقضي به عقله، فالنفس بمنزلة المحامي عندما تميل إليه، ثم قد تكون هي الشاهد وهي الحاكم.
والعالِم إذا سخط على صاحبه، فإنما يكون سخطه لأمرٍ ينكره، فيسبق إلى النفس ذاك الإنكار، وتَهوى ما يناسبه، ثم تتبع ما يشاكله، وتميل عند الاحتمال والتعارض إلى ما يوافقه، فلا يُؤْمَنُ أن يَقوى عند العالم جرحُ مَنْ هو ساخطٌ عليه لأمرٍ -لولا السخط- لَعَلِمَ أنه لا يُوجبُ الجرحَ.
وأئمةُ الحديثِ متثبتون، ولكنهم غير معصومين عن الخطأ، وأهلُ العلم يُمَثِّلُوَن لجرحِ الساخط بكلام النسائي في أحمد بن صالح، ولما ذكر ابن الصلاح ذلك في المقدمة عقبه بقوله:"قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نسب مثله إلى مثل هذا، كان وجهه أن عينَ السخط تبدي مساوىءَ، لها في الباطن مخارجُ صحيحةٌ تعمى عنها بحجاب السخط، لا أن ذلك يقع من مثله تعمدًا لقدحٍ يعلمُ بُطلانه".
وهذا حَقٌّ واضحٌ، إِذْ لَو حُمل على التَّعَمُّدِ سَقطتْ عدالةُ الجارح، والفرضُ أنه ثابتُ العدالة.
هذا، وكُلُّ ما يُخشى في الذم والجرح يُخشى مثلُه في الثناء والتعديل؛ فقد يكون الرجلُ ضعيفًا في الرواية، لكنه صالحٌ في دينه، كأبان بن أبي عياش، أو غيورٌ على