أقول: أما إذا كان الطبع بالزنكوغراف كما طبع أنساب السمعاني فإن الأمر كما وصف؛ لأن في هذا الصنيع مفسدة؛ وهي أن الباعث على طبع الكتب القديمة أحد أمرين، إما طلب الربح وهو الغالب، وإما الرغبة في نشر ذاك الكتاب خدمة للعلم، أو إظهارا لفضل مؤلفه أو غير ذلك.
فإذا طبع الكتاب مرة ضعفت الرغبة في طبعة مرة أخرى. أما طالب الربح فإنه لا يرجو ربحا في الطبع مرة أخرى؛ لأنه يرى أن أكثر الراغبين في اقتناء الكتاب قد استغنوا بالطبعة الأولى. وأما الراغب في نشر الكتاب فإنه يرى أنه قد انتشر بالطبعة الأولى.
فطبع الكتاب من شأنه أن يحرم أهل العلم بقية نسخه الصحيحة إلى أمد طويل على الأقل كما هو الشأن في أنساب السمعاني، فإن نسخه القلمية موجودة في مكاتب العالم ولم تتجه الرغبات إلى طبعه بعد تلك الطبعة إلى الآن مع حاجة كثير من أهل العلم إلى ذلك لما يجدونه في تلك الطبعة من النقص والخلل.
نعم إذا كانت النسخة القلمية المطبوع عنها بغاية الجودة والصحة فالطبع عنها بالزنكوغراف وافٍ بالمقصود، بل هو أولي من الطبع عنها وعن غيرها بالحروف؛ لأن الطبع بالحروف لا تخلو من تصرف النساخ والمصححين والمركبين فلا يوثق كل الوثوق بمطابقته للأصل القلمي الموثوق به كما يوثق بمطابقة المطبوع بالزنكوغراف.
أما إذا كان الطبع بالحروف على هذا الرأي ففيه مع المفسدة المذكورة مفسدة أكبر؛ وهي أنه لا يمكن فيه تطبيق المطبوع على الأصل القلمي لوجوهٍ، منها:
أن من الحروف ما تتحد صورها وإنما يميز بينها النقط كما مر تفصيله في المقدمة، والأصول القلمية كثيرًا ما يهمل فيها النقط، ولا يمكن تطبيق ذلك في الطبع بالحروف كما إذا وقعت في الأصل كلمة "مفيد" بلا نقط، واحتملت أن يكون "مفيد" أو "مفند" أو "مفتد" أو "مقيد" أو "مقيد" أو غير ذلك، فكيف تطبع؟