واعلم أن الحديثَ عن مناهج الأئمة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل، يَخْتَصُّ بالحُذَّاقِ من أَهْل الصَّنْعَةِ، وهو مَبْنيٌّ على أُسُسٍ عَامَّةٍ يَتَّفِقُ عليها معظمُهُم، لكن ربما اختلفوا أحيانًا في تطبيق بعض الجزئيات, وهو اختلافٌ في الاجتهاد لا يقدحُ في استقرار القواعد العامَّة عندهم.
ومن الأدلّة على ما ذكرتُ، أنَّ النَّاظِرَ في كُتب العلل والأخرى المَعْنِيَّة بالتخريج، ليرَى توافقَ الأئمة في الأَعَمِّ الأغْلَبِ في الحكْمِ على الحديث الواحد، وفي كثير من الأحيان يكون إعلالُهم للحديث من زاويةٍ واحدةٍ, ولسببٍ واحدٍ، على غير اتفاقٍ بينهم، ولا سؤال بعضِهم لبعضٍ، وربما كانت هناك عدة زوايا هي مظنَّات للخلل، ولكنهم يَعرفون كيف تُورد الإبل.
وهذا من أَقْوَى الأدِلَّة على أنَّ هذا العلمَ حَقٌّ، وأن أَدِلَّتَهُ مَبْنِيَّةٌ على أساسٍ متينٍ، وأن اللَّه تعالى قد هيّأ أسبابَهُ لأئمته الذين اختارهم.
وقد ذكرتُ شيئًا من ذلك التوافق بين الأئمة في "التمهيد" المشار إليه سابقًا في تعظيم قدر أئمة النقد (ص ١٢٦ - ١٢٧) من القسم الأول من هذا الكتاب.
أما غَيْرُ أهلِ الاختصاص، والآخذين من أهله بقُشُورِ هذا العلم، والمُشَمِّرِينَ لِكُلِّ علمٍ دُونَهُ، فإنما يَرَوْنَ تلك المناهجَ، وهذه القواعدَ والأُسُسَ، تارةً: تكهنًا، وتارة: تخمينًا، وتارةً: احتمالاتٍ وتارةً: تناقضاتٍ وتارةً: ألغازًا!.
ويُعرفُ تَصَوُّرُ هؤلاء عن هذا العلم وأهلِه إما تصريحًا، وإما تلميحًا، وإما بِعُزُوفِهِم عن مَوَارِدِهِ ومظانِّه، فتجدُ كلامَ نُقَّادِ هذا الفَنِّ، تارةً مهجورًا، وتارةً: منقولا، لكن مفرَّغًا من مدلوله إلى مدلولاتٍ أخرى مخترعة، وتارةً: منقولا، لكن مُنْتَقَضًا بكلام غيرهم من غير أهل الاختصاص، أو من متساهلي أهله، وتارةً: منقولا، لكن دون أيّ اعتبار لمعناه ومُؤَدَّاه.
وقد وَضَعْتُ في إِجْلاء هذه المعاني رسالةً سَمَّيْتُها:"القواعد المُهِمَّة في إِحْياء مناهج الأئمة" وهي قَيْدُ الجمع.