اعْلَمْ أنه لم يُصَرِّحْ أكثرُ أئمةِ الحديث -لا سيما المتقدمين منهم- بشروطهم في كتبهم، ولم يَحُدُّوا لما يُخرجونه من الحديث أو لمن يخرجون له من الرواة حَدًّا لا يَنْفَكُّون عنه.
فلم يُدَوِّنِ الأكثرُ شروطَهم ولا مناهجَهم في مصنفاتِهم، وإنما سارتْ كتبُهم في أهل الفهم والنظر، فوقفوا على مقاصدِ أصحابها، استنادًا إلى قواعدَ قدِ استقرتْ، وطرائقَ قد مُهِّدَتْ، على اختلافٍ بينهم في أمورٍ جزئيةٍ، لا يستحيلُ في العادة وقوعُها، ولا يمنعُ الاجتهادُ من حدوثِها، وصارَ لكلِّ إمامٍ منهم:"بصمةٌ" يُعرفُ بها.
فلما تَقادَمَ العَهْدُ، وطالتِ الأسانيدُ على مَنْ بعدهم: وَعَرَ الطريقُ، وطاشَتْ مَعالِمُه، وازداد الخَطْبُ، وصار الفهم عزيزًا، فاحتار الناظرون في مقاصدِ القوم واضطربتْ آراؤهم، وصارت كثيرٌ من البديهيات عند الأوائل معضلاتٍ ومبهماتٍ عند مَنْ بعدهم، وذلك بسبب قِصَرِ أنظارِهِم، وسَطْحِيَّهِ أفكارِهِم، وزادوا الطِّينَ بلة؛ فقلَّد التالي منهم المتقدمَ، ولم يُدَقِّقْ ولم يُمَحِّصْ، كما قال الحافظ ابن حجر في مقدمة "فتح الباري"(ص ٤٨٩):
"كثير من المحدثين وغيرهم يستروحون بنقل كلام من يتقدمهم مقلِّدِين له، ويكون الأول ما أتقن ولا حرّر، بل يتبعونه تحسينًا للظن به". اهـ.
فإذا تَقَرَّرَ ما سبق، فاعلم أنه لا سبيلَ للوقوف على مقاصدِ القوم وطرائِقِهِم إلا سبيلٌ واحدٌ، ألا وهو: دراسةُ منهجِ هؤلاء من خلال ما سَطَّروا، أو سُطِّر عنهم، والسعي إلى الوقوف على التصور الصحيح لهذا الميدان الواسع الذي كانت تدور في جنباته حلقاتُ الرواية, ومحاولةُ فهمِ مسالك الرواة في تحمُّلِهم وأدائهم، وإدراكُ دلالاتِ التوثيقِ والضبطِ والاحتياطِ, وأوجهِ الخلل وأسبابِ العلل في المرويات.