وتواطؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد يقضي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة.
وغير مُشْكَلٍ على من عقل التمييز من الحفاظ من نَقَلَةِ الأخبار ومن ليس كمثلهم: أن يحيى بن سعيد أحفظ من سعيد بن عبيد، وأرفع منه شأنا في طريق العلم وأسبابه.
فلو لم يكن إلا خلاف يحيى إياه حين اجتمعا في الرواية عن بُشير بن يسار، لكان الأمر واضحا في أن أَوْلاهما بالحفظ: يحيى بن سعيد، ودافعٌ لما خالفه. اهـ.
ثم ذكر مسلم -استطرادا- وجوها أخرى للخلاف في متن هذا الحديث، فقال:
"غير أن الرواة قد اختلفوا في موضعين من هذا الخبر سوى الموضع الذي خالف فيه سعيد، وهو أن بعضهم ذكر في روايته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ المدَّعِين بالقسامة، وتلك رواية بُشير بن يسار ومن وافقه عليه، وهو أصح الروايتين.
وقال الآخرون: بل بدأ بالمدَّعَى عليهم.
والموضع الآخر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وَداهُ مِنْ عنده، وهو ما قال بُشير في خبره، ومن تابعه.
وقال فريق آخر: بل أغرم النبي -صلى الله عليه وسلم- يهودا الدية، وحديث بُشير -يعني: ابن يسار- في القسامة، أقوى الأحاديث فيها وأصحها. اهـ.
قال أبو أنس:
بهذا البيان البديع، والشرح الماتع، يتضح أن مسلما قد وفَّى بما وعد به في مقدمة "صحيحه"، وألزم نفسه به: أنه يبدأ بالأحاديث ذات الطرق والمتون الأسلم من العيوب وهي أقوى وأصح ما ورد عنده في الأبواب التي يعقدها في "صحيحه".
وما يُؤخِّرُه ليس بهذه الصفة، وربما يشتمل مع ذلك على عِلَّةٍ أو وهمٍ لبعض الرواة، تتباين وسائلُ شرحه لها، وتنبيهه عليها بحسب كل موضع وما يليق به.