ولو عُثِر على كتاب "التمييز" كاملا، لأبان عن أكثر ما أودعه مسلم في تضاعيف كتابه "الصحيح" من الصناعة الحديثية التي يرتاب فيها أو يهابها كثير من الباحثين.
وَرَأْيُ مسلمٍ في رواية سعيد بن عبيد واضحٌ من منطوق كلامه في "التمييز" أنه يراها وهما من سعيد، ومن مفهوم صنيعه في "الصحيح".
وشرح ذلك -على فرض أننا لم نقف على كلامه في "التمييز"- أنه قد ساق حُكم القسامة من خلال ما اشتهر من طريق جماعة من الحفاظ عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار في ذلك، وهو البدء باستحلاف خمسين من المدَّعِين، فلما أَبَوْا عرض عليهم استحلاف مثلهم من المدَّعى عليهم.
ثم لما ذكر حديث سعيد بن عبيد، ولم يسق لفظه تاما كما فعل مع حديث يحيى، ولم يقل: مثله أو نحوه، ليدل على أنه لم يسق لفظه اختصارا، أثار ذلك هِمَّةَ الباحث لينظر في لفظ حديث سعيد من طريق مسلم، فلما وُجد في لفظه البدءُ بسؤال البينة، وعدم ذكر الخمسين في المستحلَفِين، عَلم أن مسلما لو كان يرى أن لفظ سعيد محفوظا، لما ساغ له طيُّه في معرض بيان حكمٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف ما لو كان لفظ سعيد موافقا للفظ يحيى.
فلما تحقق الباحث من هذه المعطيات، ترجح عنده أن مسلما قصد الإعراض عن سياق لفظ سعيد لما يراه من وهمه فيه.
وقد كان يمكن لمسلم أن يسوق لفظ سعيد بتمامه، وينبه على وهمه صراحة، لكنه قد نصب أماراتٍ تُرشد الباحث إلى مراده من ذلك، تعلم بالاستقراء والتتبع والنظر.
وإنما شَرْحُ تلك العلل وبيان أوهام الرواة موضعه كتابٌ كالتمييز له، فهذا هو مقام التفصيل، أما "الصحيح" فإنه إذا احتاج إلى شيء منه لمزيد فائدة، فإنما يسلك في ذلك طرائق عدة، ولكل مقام مقال.