وبدأ الثائرون يعرضون منصب الخلافة على كبار الصحابة: «على بن
أبى طالب»، و «طلحة بن عبيد الله»، و «سعد بن أبى وقاص»،
و «الزبير بن العوام»، و «عبدالله بن عمر بن الخطاب»، فرفضوا
جميعًا، وسماهم «على بن أبى طالب» الثائرين ولعنهم على فعلتهم
الشنعاء، فهددهم الثائرون بقتلهم جميعًا كما قتلوا «عثمان» إن لم
يقبل أحدهم منصب الخلافة.
وفى مثل هذه الظروف العصيبة كان لابد من رجل شجاع غير هياب،
يتقدم الصفوف لحمل الأمانة وسط الأخطار المحدقة بها، واتجهت
الأنظار إلى «على بن أبى طالب»، وتعلقت به الآمال، ترجوه تحمل
المسئولية، وقيادة الركب إلى بر الأمان، وألح عليه كبار الصحابة
إلحاحًا شديدًا لتولى المنصب الشاغر، منصب الخلافة الجليل، فقبل
تجشم تبعاتها فى هذه الظروف الدقيقة، وكان قبوله لها ضربًا من
ضروب الفروسية والشجاعة، والاحتساب عند الله، والنزول على رغبة
كبار الصحابة.
كان «على بن أبى طالب» هو أول خليفة يخطب قبل البيعة، وكانت
خطبة قصيرة، أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم أنهم هم
الذين ألحوا عليه تقبل أمرٍ كان له كارهًا، لتبعاته ومسئولياته، فلما
وافقوا بايعوه، ولهذا كان عليه أن يخطب مرة أخرى خطبة يوضح
فيها أسلوبه فى الحكم، فقال: «إن الله أنزل كتابًا هاديًا، بين فيه
الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى
الله تعالى يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل
حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق
المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا
يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم
الموت، فإن الناس أمامكم، وإن من خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا
تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم، اتقوا الله عباد الله فى بلاده
وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله فلا