الوحْى والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، ففقهوا في الدين، وعلِمُوا أمر الله ونهيه ومراده، بمعاينةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومشاهدتِهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفِهم منه واستنباطِهم عنه، فشرفهم الله سبحانه بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضْعِهِ إياهم موْضع القُدْوة، فنفى عنهم الشك والكذب والرِّيبة، وسماهم عُدُول الأمة، فكانوا أئمة الهُدى، وحُجج الدينِ، ونقلة الكتابِ والسُّنّةِ.
فهذا هو أصل المحجّةِ التي ارْتضاها الله سبحانه لهذه الأُمّةِ في معرفةِ دينهِ، ألا وهو نقْلُ الصحابةِ الكرامِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمُشاهدِة والمُعاينة للوحْي والتنزيلِ.
ثُمّ إِنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قدْ حضّ صحابتهُ على التبليغ عنْهُ في أخبار كثيرة، فقال:"بلِّغُوا عنِّي ولوْ آيةً". وقال في خطبته:"فلْيُبلِّغ الشّاهِدُ منكم الغائب". ودعا لِمنْ بلّغ عنه فقال:"نضّر الله امْرءًا سمِع مقالتي فحفظها ووعاها حتّى يُبلِّغها غيرهُ".
"ثمّ تفرّقتِ الصحابةُ -رضي الله عنهم- في النّواحي والأمْصار والثُّغُورِ، وفي فتوحِ البُلْدانِ والمغازي والإِمارة والقضاء، فبثّ كُلُّ واحدٍ منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به: ما وعاهُ وحفِظهُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحكمُوا بِحُكْمِ الله سبحانه، وأمْضوُا الأمور على ما سنّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم -، وأفْتوْا فيما سُئلوا عنه مما حضرهم مِنْ جوابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن نظائرها من المسائل، وجرّدُوا أنفسهم لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله سبحانه، رضوانُ الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين.
ثم خلف بعدهم التابعون الذي اختارهم الله سبحانه لإقامة دينه، وخصهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسُنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وآثاره، فحفظوا عن صحابته ما نشروه وبثوه من العلم، فأتقنوه وعلموه وفقهوا فيه، فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله سبحانه ونهيه بحيث وضعهم الله سبحانه، ونصبهم له، إذ يقول الله سبحانه:{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة: ١٠٠].
فصاروا -برضوانِ الله سبحانه لهم وجميلِ ما أثنى عليهم- بالمنزلةِ التي نزههم الله بها عن أن يلحقهُم مغمزٌ أو تُدْرِكهُم وصمةٌ؛ لِتيقُّظِهِم وتحرّزِهم وتثبُّتِهم -رحمةُ الله