فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- له إنما كان لعدم تحقق المقتضى وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خير محض.
فجمع القرآن بها صحف بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف.
ومعنى هذا أنه طول تلك المدة لم تبد حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القراء يبلغون القرآن من صدورهم ومنهم من كتب من صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره - وكتب عثمان بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها. هذا شأن القرآن.
فأما السنة فمخالفة لذلك في أمور:
الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعن بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها أي بنحو الطريق الأولى في القرآن.
الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين.
الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن إذ استحر القتل بحفاظه من الصحابة قبل أن يتلقاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيرًا ولم يتفق أن استحر القتل بحفاظ السنة منهم قبل تلقي التابعين.
الرابع: أنهم كانوا إذا هَمُّوا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: "هو والله خير" أي خير محض لا يترتب عليه محذور.
كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببًا لرد من بعدهم ما فاتهم منها، وقد مَرَّ (ص ٢٤) عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جمعه منها: "أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما خفي على أبي بكر".